دللوه كثيرًا، لمعوا اسمه أكثر مما ينبغي، أرادوا أن يصنعوا منه زعيمًا جديدًا في الظل، فعلوا كل ما يمكن فعله استعدادًا لزمن قادم ينصبوه فيه ملكًا عليهم، إلا أنه كان رخوًّا أكثر مما تصوروا، خذلهم في أول امتحان حقيقي للزعامة، ظلت حقيقته الدفينة تفصح عن عجزه الذاتي، بالرغم من كل الدعامات الخارجية، لمنحه الجسارة والقوة ومؤهلات الزعامة.
أحمد علي عبدالله صالح.. النموذج الأبرز للشخصية المعطوبة، أكبر دليل لفشل منطق التوريث بنفسه. حيث الملك صفات ذاتية أكثر منه جينات متوارثة. وما لم يمتلك الشخص القابلية الذاتية للحكم، من الصعب أن تُلبسه ثوب الزعامة قسرًا وتوهم نفسك أنه قادر على أداء المهمة.
مرت محطات كثيرة، كانت فرصة تاريخية ذهبية؛ كي يثبت الفتى أهليته لحمل الرآية؛ لكنه ظهر على حقيقته العارية، هزيلًا، مرتبكًا، تائهًا ولا يدري ماذا يقول أو يفعل..!! يا لها من فضيحة تؤكد ضحالة القيمة، وتكشف حجم البؤس لمن راهنوا عليه وتعبوا كثيرًا في التعلق به كوهم بديل.
يتعللون بالعقوبات وبكونها كبلت الرجل، فيما الحقيقة أن البطل ينمو وسط كل الأشواك. الزعامة لا تنتظر طريقًا مفروشًا بالورد، وخاليًا من الحفر، كي يتقدم الصفوف، وهذا ما لم يتوفر عليه أحمد علي، ولو احتشد العالم له كي يدفعه للواجهة، لما تمكن الرجل من صنع شيء.
لم تكن العقوبات هي من صادرت فاعلية الرجل، وجعلته حبيس شقته في دبي..! هو بذاته- ومن قبل العقوبات ومن بعدها- لم يكن مؤهلًا لشيء. بل إن العقوبات كانت انقاذا له من عناء الحضور، أعفته من فضيحة الانكشاف، ومنحته غطاءً لمواصلة الاختباء، بعيدًا عن مشقة القيادة ومتطلبات المرحلة.
لا يشكل أحمد علي أي إضافة لمعركة الجمهورية واستعادة الدولة. ولا يمكن للتسامح معه أن يرمم عطالته الذاتية، بقدر ما يضعف من حماسة الناس لمواصلة المعركة. الأمر لا علاقة له بحقدنا على هذه الأسرة، ولا باستعدادنا للتقارب معهم من عدمه، بل بانتفاء فاعليتهم وعدم صلاحيتهم لأي مهمة مستقبلية.
لقد مرت ثلاث سنوات منذ قُتل صالح. فترة كافية كان يجب أن تكون فرصة لحزب المؤتمر لتدشين بداية جديدة للتنظيم.. بداية يستعيد فيها الحزب قراره المؤسسي، ويحدث قطيعة مع زمن الزعيم الفرد، والقادر المقتدر الأوحد وحاشيته؛ لكن هذا لم يحدث، وما تزال قيادة الحزب محشورة في جلبات الأولاد والأقارب، وكأننا أمام قيادة أدمنت الدوران في فلك الأسرة، وتفتقد لشرط الاستقلال الداخلي، حتى وقد غادرها رأس الحزب والرجل الذي استأثر بالزعامة لعقود، ومنع ميلاد رؤوس متحررة من التبعية، وتثق بقدرتها على قيادة الدفة.
وها نحن بعد ست سنوات من سقوط الجمهورية، وبمشاركة حزب المؤتمر نفسه، وبعد ثلاث سنوات من مقتل رأس الحزب، ما تزال قيادات المؤتمر عاجزة عن رؤية مستقبل حزبها بعيدا عن إرث الزعيم.
في بداية الأمر، لم تتجرأ كثيرا من رموز الحزب- من خارج أسرة صالح- أن تدين كارثة تحالفه مع الميليشيا الحوثية؛ ثم بعد أن قضى الزعيم نحبه، تفرقت القيادة أكثر، ولم يوحدها شيء، مثل اتفاقها على مواصلة تلميع أولاد الزعيم والدفاع عنهم..! كما لو أنها لا تستطيع أن تتجاوز لعنتها التاريخية، وارتهانها المطلق لأسرة عبثت بمواثيق الحزب، ودمرت كل الأسس القومية والجمهورية التي نشأ عليها، أو على الأقل ما هو مفترض أن يكون عليه.
حسنًا، كلما اعترض الناس على إعادة تدوير أولاد الزعيم وأقاربه، يخرج علينا رفاق من داخل الصف الجمهوري، يتأففون من مواقف الناس، بحجة أن خطابهم لا يخدم المعركة ويوقظ النعرات ويعمق الانقسام..! لا أدري من قال أن الجمهورية تقتضي الاحتشاد جوار أسرة معينة ومواصلة تدليلها بحجة المستقبل، مع أن أبسط مدلولات الجمهورية هو أنها تقع على الضد تمامًا من الطبقية ومحاباة هذه الأسرة أو تلك.. إحدى مرتكزات الجمهورية هي قيمة المساواة، فتح الفضاء العام للجمهور بكل مستوياتهم وعلى كل فرد أن يثبت ذاته داخل شروط الجمهورية دونما فوارق في تكافؤ الفرض.
ناهيك عن أن لا أحد حصل على فرص متزايدة للحضور والفعل وتجريب قدراتهم مثل أبناء الزعيم، وبشكل يتجاوز اشتراطات الفكرة الجمهورية..! ومع كل ذلك فشلوا، ثم تطلع علينا أصوات جديدة اليوم، تطالب اليمنيين أن يواصلوا إفساح الطريق وتعبيد الطرق أمامهم، وكأن البلاد خالية من الرموز القادرة على صناعة مصيرها بمعزل عن هؤلاء.
مرة ثانية؛ الأمر لا علاقة له بالإقصاء، ولا بالمرونة أو التصلب ضد هذه الأسرة، بل بعبثية هذا المنطق المتودد لبقايا أسرة الزعيم، بالاستياء من حالة البؤس التي نعيشها، لدرجة أننا نراهن أن المستقبل والجمهورية لن يتعافا إلا لو كان أحفاد الزعيم في الواجهة، هذا المنطق يقوض فكرة الجمهورية ويفرغها من مضمونها كما كان عليه الحال أول مرة.
لا أحد يرفض المصالحة والعدالة الانتقالية، ولا عدالة انتقالية دون تنازلات وتجسير الهوة بين أنصار المستقبل والباحثين عن دولة، لكن المصالحة ليست رهينة بأسرة، والعدالة لا تمر بقسر الضحايا أو استفزازهم..!!
إذا كان لا بد من مصالحة، فلتكن البداية من شجاعة الطرف الأخر، شجاعة الأسرة واستعداداها للانخراط في مشروع المستقبل، دونما مطالبه لضحاياها بالالتفاف حولها وتسليمها زمام القيادة مرة ثانية. فلتكن المصالحة بعودتهم مواطنين صالحين، وانخراطهم في العمل دونما شرط ولا قيد، وحالما يثبتوا صدقهم ونتمكن من استعادة دولتنا، يمكننا القعود للتفاوض حول مصيرهم ومتطلبات المرحلة الجديدة، بما يرمم غبن الضحايا ولا يفخخ مستقبلهم مرة ثانية.
#أحمد_جدتي
اقراء أيضاً
"غزة" كرافعة أخلاقية للعدالة
في السلم والحرب.. طباع الحوثي واحدة
عن التعبئة الشعبية لمعركة الجمهورية