ستضع الحرب أوزارها بطريقة أو بأخرى، هذا أمر بديهي لا يجادل فيه الكثير، غير أن السلام مُشكل لا يقل تعقيدًا عن الحرب ذاتها، بل إن الشروع بالسلام عملية أشد صعوبة من الولوج في الحرب، فالدخول في معركة لا يحتاج سوى قوة عمياء واستعدادًا للمغامرة، دونما تفكير كبير أو تريث لحسابات الربح والخسارة، وأي تدابير تتعلق بالحرب تأتي في خضم المعركة وبعد انطلاقها وليس سابقة لها كما هو الحال فيما يخص السلام.
بالنسبة للحوثي لا يبدو قرار شن الحرب أو استمرارها صعب عليه، كما أنها ليست خيارا اضطراريا في عرفه، بل قاعدة مركزية يتأسس بها وجوده ولهذا فهي سلوكًا شديد الالتصاق به، وكل ما سواها كالسلام مثلا خيارات ثانوية لا يفكر بها إلا كامتداد للحرب، أي أن السلام بالنسبة للحوثي طريقا فرعيًا يسلكها بغية قطاف الثمرة فحسب.
يعلم الحوثي أن الحرب لا يمكنها أن تستمر بلا نهاية، وعليه أن يواجه مطالب السلام اليوم أو غدا، وهو ليس مُغلق الباب تمامًا في هذا الجانب؛ لكن السلام الذي يريده الحوثي هو سلامًا يحقق به نفس الطموحات التي كان يهدف لها من خلال الحرب.
كان الحوثي يرغب بفرض نفسه كطرف مهيمن على الحياة السياسية في البلاد؛ لكن خصومه تصدوا له، ومنعوه من تحقيق هذه الغاية؛ أما هو فلم يتنازل عن غايته تماما، واصل المحاولة وما يزال، ليس بالحرب وحدها، بل حتى في تعاطيه مع مبادرات السلام يطرح شروطًا خلاصتها تتمثل في ضمان موقعه المتميز وكأن الحرب لم تقم، أو كأن ما عجز عن تحقيقه بالحرب يريد تأمينه بالسلام.
من يحاول قراءة الشروط التي يطرحها الحوثي كمطالب أولية حاسمة لقبوله بالمبادرة، يفهم مباشرة أن الجماعة ترغب بكسر كل القيود التي فرضتها عليها الحرب، وبذلك تعود الجماعة لوضعية شبيهة بوضعها بعد سيطرتها على العاصمة، أي انتهاء الحصار عليها وفتح المطارات والموانئ ووقف التدخل العسكري، وهذه أجواء تضمن لها استعادة وضعية مريحة للحركة ولا يضع بمقابل ذلك أي ضمانات تلجمها من أي خطوة منفلتة.
من الواضح أن تشدد جماعة الحوثي فيما يخص مطالبها بفتح مطار صنعاء دون قيد ولا شرط ومنحها كامل الصلاحيات بتسيير الرحلات دونما أي رقابة أو تفتيش من قبل التحالف والحكومة، هذا الشرط بالتحديد يُفهم منه أكثر من غاية: الأولى: تجريد الحكومة الشرعية من حقها السيادي في مراقبة الأجواء اليمنية والتحكم بمسارات الدخول والخروج، أو لنقل منازعتها شرعيتها في هذا الجانب.
ثانيًا: يتضح أن تشدد الحوثي في هذه النقطة أن الجماعة لا تضمر أي نوايا سلام حقيقية ولم تنضج لديها بعد أي قناعات مبدئية بضرورة اتاحة فرصة صادقة للسلام، فالجماعة وإن تذرعت بدوافع إنسانية؛ إلا أن الأهداف السياسية تظل حاضرة بقوة ووضوح.
أما اللافتة الإنسانية المرفوعة فلا أحد يختلف أنه من غير الجيد أن تكون ميدانا للمزايدة من أي جانب، لكن الحوثي يرفض أن تتحقق الدوافع الإنسانية بواسطة إشراف خصومه ويريد أن يحتكر هو رعايتها، أما لو كان صادقا أن غايته عزل المسار الإنساني عن المسار السياسي، فما هو المانع أن يُفتح مطار صنعاء وتمر الرحلات عن طريق نقاط تفتيش خاضعة لإشراف الشرعية والتحالف، ألا يعني هذا أن الحوثي نفسه هنا يزايد بالمجال الإنساني؛ كي يتخذ منه جلبابًا لبلوغ غاية ما سياسية وعسكرية خاصة به ولا علاقة لها بأي جانب إنساني.
في زمن الحرب يتذرع الحوثي بالضحايا ويتباكى باسمهم وفي زمن السلام يرفع لهجته عاليًا كمحاميًا عنهم، في الأولى يتجلى كمجرم وقح لا يكف عن المتاجرة بجراحهم، وفي الثانية يبدو كلص جاني، يتقلد الحديث باسم ضحاياه، ويواصل التذرع بهم للوصول لبغيته.. في السلم والحرب، لا يغير الحوثي طباعه مهما تغيرت مواضيع الحديث.
يريد الحوثي أن ينتزع أقصى مكاسب ممكنة من خصومه، دون أن يقدم مقابل ذلك أي تنازلات تلجم تحركاته على صعيد مراكمة القوة، أي أنه يريد تحرير قيوده؛ كي يتنقل بين بيروت وطهران ويعود بقدرة أكبر على لجم خصومه سواء في أي تسوية سارية أو تحسبا لأي دورة عنف قادمة.
الخلاصة:
لا تختلف طبائع الحوثي في تعاطيه مع مقترحات السلام عن طباعه في التعامل مع الحرب، نحن إزاء جماعة يمثل التعنت سمة أساسية في سلوكها في كل ميدان، ولا شيء يحركها سوى دوافعها الخاصة ومصلحتها الذاتية، جماعة متحللة من أي كوابح أخلاقية أو التزامات سياسية مبدئية، ولهذا فأمر السلام كما أمر الحرب مرهون ببلوغ غايتها أو شعورها بتهديد حقيقي يدفعها للرضوخ سلما أو حربًا، ما عدا ذلك سيطول المشوار معها ولن يفضي لنتيجة مضمونة مهما بدت الأمور قابلة للحلحلة، فالعملية ستظل مكشوفة حتى لو تحركت قليلا للأمام، فالتعثر أقرب إليها من النجاح ما لم تكن الخطوات موثوقة منذ البداية.
اقراء أيضاً
"غزة" كرافعة أخلاقية للعدالة
عن التعبئة الشعبية لمعركة الجمهورية
مأزق "الإنتقالي" بين السلطة والمعارضة