رمضان والقراءة والكتابة.. كان زمان


سعدية مفرح

من عاداتي الرمضانية التي تكونت طوال عملي في الصحافة طوال ما يزيد على ربع قرن أنني أعود لأرشيفي الصحفي فأرتبه وأصنفه رغم أنه عصي على الترتيب والتصيف. ومنذ أن اختفى الورق تقريبا فتحول أرشيفي إلى ملفات في قلب الحاسوب، أصبحت عادتي أكثر متعة، ذلك أنها تتيح لي ليس التصنيف والترتيب وحسب بل أيضا سهول القراءة من جديد في كل ما كتبته على سبيل الحنين حينا، وفي سبيل المقارنة مع الراهن أحيانا، وانسياقا وراء اكتشاف الذات من جديد في ما كتبته في القديم أحيانا أخرى. حتى أنني في مرات كثيرة وجدتني أحاول التأكد عما إذا كنت أنا فعلا من كتب هذا المقال أو ذاك.. وتختلط مشاعري تجاه بعض ما أقرأ ما بين الاستحسان والاستهجان.. وكأنه لا يمت لي بصلة ولا أكد أعرفه لولا أنه موقع باسمي!

 

قبل أيام وفي خضم البحث بين الملفات الكثيرة، وجدتني أقرأ مقالا عن القراءة والكتابة في رمضان في الماضي. فأحببت استعراضه من جديد على سبيل المقارنة في تدوينات متتالية هنا: لرمضان سحره الروحاني الجميل وله أجوائه الخاصة، والتي قد تبدو للبعض فرصة لكسر الروتين اليومي طوال الأحد عشر شهرا الأخرى من العام، ولا أعتقد أن أحدا يحتاج لكسر روتينه بشكل دائم ويومي أكثر من أولئك الذين أدركتهم حرفة الأدب، أعني المشتغلين بالكتابة والإبداع تحديدا. وربما لهذا السبب كان رمضان يمثل شهرا مفضلا لكل من يستخدم القلم شغلا وانشغالا وعملا واكتمالا وهواية أولى غالبا ما تتحول إلى أن تكون الوظيفة الأخيرة.

 

ففي طيات الزمن الرمضاني المتوهج بخصوصيته الذاتية وعبقه الديني المتراكم، اقتراحات دائمة للكتابة والقراءة والعمل، وتحريض، تحت وطأة الجوع المسالم تحديدا، على تحرر الأفكار، وانطلاقها نحو التحقق على الورق إبداعا لا يحتاج بعد ذلك إلا إلى قليل من التتمات والتعديلات والتي غالبا ما ينظر لها هؤلاء الكتاب والمبدعون على أنها الجزء الأسهل في العملية الإبداعية كلها. وبالتالي فلا عجب أن نعرف أن كثير من إبداعات هؤلاء المبدعين انطلقت شرارتها الأولى في فترات الانتظار صلاة وقياما، وسحورا وإفطارا.

 

وحتى أولئك الذين لا يتعاطون الأدب إلا عن طريق التلقي قراءة واستمتاعا، كانوا يجدون في أجواء الشهر الفضيل أكثر من فرصة لتلقي ما كانوا يؤجلون تلقيه وقراءته طوال أيام الشهور الأخرى فكانت تتراكم الكتب في مكتباتهم الخاصة، وبالقرب من أسرة النوم حتى يحين موعد ذلك الشهر المخصص لكل المؤجلات تقريبا، وكان من المعتاد جدا أن يتسابق الكثيرون على إعداد جدول بقراءاتهم التي يودون الانتهاء منها خلال الشهر الكريم، وهو جدول كان يتخذ مكانه ومكانته بجوار الإمساكية الرمضانية المعتادة، ويقتنص أوقاته الخاصة ما بين ساعات العبادة والعمل متعة لا تعادلها متعة في ذلك الشهر المفعم بروحانياته الجليلة، وكأنما كانت قراءة القرآن الكريم، والذي يحرص كثير من الصائمين على ختمه مرة أو أكثر خلال الصوم، كقراءة تعبدية أخروية تحرض، ولو بطريقة غير مباشرة، على القراءة الاستمتاعية الدنيوية.

 

لكن كل هذا كان زمان، وكان فعل ماض! أما الحاضر، فله أفعاله الجديدة والتي كثيرا ما تتناقض مع أفعال الماضي الرمضانية تحديدا، فقد كان لذلك الزمان الماضي معطياته التي خلقت له تلك الخصوصية في ذاكرة كل ما تعايش معه، ومن أهم تلك المعطيات، وسائل المتعة التي غالبا ما كنا نجد أنفسنا نبحث عنها تمضية لوقت الصيام الطويل في شهر رمضان بتعاقب فصول الشتاء والصيف وما بينهما عليه. وبمساحة المتعة البريئة والتسلية المتناسبة في طبيعتها مع طبيعة الشهر الفضيل كنا نقيس ما يتبقى لنا من وقت. فشهر رمضان كان للعبادة أولا، وللعمل ثانيا، وللتسلية بتلك الشروط ثالثا.

 

لأن وسائل المتعة الرمضانية كانت محدودة جدا، ما بين ألعاب بسيطة ومشاهدات تلفزيونية موحدة، واستماع دائم للإذاعات، وقراءات كانت لمن يحب القراءة فقط.. وزيارات عائلية، ثم نوم مبكر استعدادا لفترة سحور محددة قبل أن يصدح المؤذن بآذان الفجر فيصلي الجميع ثم يكملوا نومهم حتى موعد العمل أو المدرسة أو الاستعدادات المنزلية لموعد الإفطار، ولكل تفاصيله التي ترقد فــي قاع الذاكــرة كلما لاح في أفــق الرمضانات الــجديدة ما يذكرنا بها عكسيا غالبا. وما زال في الذكريات بقية ستأتي!

 

* شاعرة وكاتبة وناقدة وصحفية كويتية المقال نقلا من "مدونات الجزيرة"

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر