إنها معجزة فلسطينية


معن البياري

كتب الشاعر المغربي، محمد بنّيس، إبّان عدوان إسرائيل على قطاع غزّة في العام 2012، يسأل: ألا يتعبُ الإسرائيليون من تكرار قتل الفلسطينيين؟ السؤال وجيه، لكنه ينتسبُ إلى المجاز والعمل الذهني، فالقتلُ هو المهنة التي تحترفُها إسرائيل التي قامت، أصلا وأساسا، عليه، شُغلا واجبا ويوميا ومحضَ عادي. ولهذا السبب، وحدَه فقط، صحّ ما كان قد كتبه بنّيس نفسُه، في مقالةٍ له أسبق، إبّان عدوان 2009 على غزّة، إن إسرائيل لا تترك للشعب الفلسطيني سوى خيارٍ واحد، هو المقاومة. ومن بين كثيرٍ أحدثتْه المقاومة الفلسطينية، في يومٍ فريدٍ وبالغ الاستثنائية، 7 أكتوبر (2023)، وهذا إيجازٌ لاسمه يجعله محفوظا ومحميّا من النسيان، أنها أتعبت الإسرائيليين في عدِّهم قتلاهم الذين قضوا في هذا اليوم ونصف اليوم التالي.
 
وعندما يصل هؤلاء إلى نحو سبعمائة، عدا عن الجرحى (والمفقودين؟) والأسرى، وبين هذه الأنواع جنرالاتٌ وضبّاط طالما أداروا جولات قتلٍ لأهل غزّة، فليس الذهولُ وحدَه ما نصيرُ عليه، بل أيضا الإعجاب المستحقّ بمعجزةٍ فلسطينيةٍ باهرة، لم يكن مُتصوّرا تخيّل حدوثها، وذلك لأن الشبّان (كم عددهم؟) الذين أبهجونا، وأدهشونا، بصنيعهم هذا الإنجاز البطوليّ الذي لن يكون ما بعده كما قبله، تسلّحوا فقط بثقةٍ شاهقةٍ بأنفسهم، وبإرادةٍ شحّ مثيلُها، فكان الذي سمّرنا أمام شاشات التلفزيون، لنُبحلق في مشاهد إذلال عساكر إسرائيليين، يُشحَطون ويُؤسَرون، يرتعشون ويرتجفون. ولنرى، بأمّهات عيوننا، أن في الوُسع أن يُقهَر الجيش الذي صنع أساطيرَه بمواظبته على الإجرام، كما الذي يقترفه حاليا في أهالي قطاع غزّة، فيقتل منهم في نهاريْن، خبط عشواء، أزيد من أربعمائةٍ، بينهم نحو مائة طفل، فليس فيه أخلاق المُحاربين.
 
لمّا كان القتل وسيلة المحتلّ الذي لم يتداول، يوما، بأيّ جدّيةٍ، مع أيّ مبادرة تسويةٍ وأيّ أطروحة سلام، فإن المقاومة تصير، بالفعل، خياراً وحيداً للشعب الفلسطيني. أدرك هذا شباب المقاومة الفلسطينية، المتجدّدة، وهم عشرينيون وثلاثينيون، فقرَّ في أفهامهم أن عدوّا من هذا النوع ليس له أن يرتاح، ولا أن يطمئنّ بفائض الغرور الذي يقيم عليه، فكانت عمليات البطولة النوعيّة التي لم يتوقف إبداعُها، حتى إذا بلغْنا 7 أكتوبر شاهدنا العجيب العظيم. ... تُراها قرائحنا جفّت، فلا تقدر على تخيّل شجاعةٍ كالتي كانوا عليها، أولئك الشبّان وهم يباغتون مستوطناتٍ ومعسكراتٍ للعدو، ينام فيها ضبّاطٌ وجنودٌ ومستوطنون مطمئين إلى استخباراتٍ ومخابراتٍ وقبّةٍ حديديةٍ وتكنولوجيات مراقبةٍ وحراساتٍ مسلحةٍ، وإلى تدابير دولةٍ نوويةٍ تصدّر أسلحة للصين والهند، وتشتري منها الإمارات والبحرين والمغرب أنظمة استخبارية (!).
 
 أيّ أرواحٍ في هؤلاء البواسل تأخذُهم إلى بديهيٍّ عتيقٍ نسيناه، أن في المقدور إيذاء العدو الإسرائيلي، وخدش زهوه بكفاءته في القتل؟ لقد قرّروا، في غزّة التي لم تعرف يوما واحدا من الحرية، بتعبير جدعون ليفي أمس، أن يتعب الإسرائيليون في عدّ قتلاهم، فتدرّبوا، وتمكّنوا من توفير الرصاص والرشاشات والبواريد، والحديد أيضا لصنع ما يلزم من أدوات قتالٍ ومباغتةٍ وطيران، وخطّطوا، ووصلوا ليالي معتمةً بعصرياتٍ ومساءاتٍ، بحذر وحيطة كثيريْن، وبمقادير باهظة من الإيمان بنصرٍ غير بعيدٍ أو بعيد. لم يكترثوا بأنباء متواترةٍ عن تطبيعٍ سفيهٍ مع عدو الأمة تتسابق إليه عواصم عربية، ولم يحفلوا بمعادلات التفوّق النوعي الكاسح لهذا العدو. انتبهوا إلى أن ثمنا ثقيلا عليه أن يدفعه، طالما إنه لا يريد أن يكفّ عن القتل والعدوان والاحتلال والاستيطان والاستخفاف بمشاعر المؤمنين عندما يرتكب بذاءاته في القدس وغيرها. أيقن هؤلاء البواسل أن الإقامة في البؤس، وفي الحصار المتوحّش، في غزّة، لا يلزم أن تكون قدرا.
 
خاطب شاعر غزّي، عمرُه 24 عاما، اسمُه أحمد السوق، معشوقتَه في قصيدة حبّ: "الآن تحت القصف/ سنكون أبطالاً/ لكن عندنا تنتهي الحرب/ سأدعوكِ إلى حفلةٍ راقصةٍ/ وسنكون وحيديْن/ لن تصحَبنا قذيفةٌ مباغتة/ ولن تفجَعنا الطائرة". في الوُسع أن نستنفر قرائحنا، ونرى الغُرّ الميامين، صنّاع معجزة 7 أكتوبر التي ستضيء نوراً وفيراً في التراجيديا الفلسطينية المديدة، إنما أرادوا للعشّاق في غزّة، وفي كل فلسطين، أياما لا تصحبُهم فيها قذيفةٌ مباغتة.
 
ذهبت السطور أعلاه إلى المجازيّ والاستعاريّ، لا إلى السياسيّ والتحليليّ، لأنه مقامُ الدهشة بمعجزةٍ فلسطينيةٍ كبرى يلحّ على هذا، ويؤجّل أي كلامٍ آخر إلى مواقيت أخرى.
 

*نقلاً العربي الجديد

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر