صنعاء العاصمة التاريخية لليمن؛ منذ أن سقطت بيد جماعة الحوثي الانقلابية في 21 أيلول/ سبتمبر 2014 لم تعد تَسعْ الهمجيةَ السلطوية التي تمارسها هذه الجماعة بحق الناس، إذ تستأثر بمليارات الريالات من مصادر الدخل المتعددة التي أتاحتها التنازلات المفروضة بقوة الضغط الأمريكي والانتهازية السعودية، في ظل حالة اللا سلم واللا حرب الراهنة، وفي الآن ذاته تستمر معاناة مئات آلاف الموظفين من كل القطاعات نتيجة عدم صرف مرتباتهم منذ سنوات مولدة حالة ضغط شديدة تضع الجماعة في مأزق حقيقي.
الخميس الماضي، تعرض الإعلامي مُجلي الصمدي، وهو مؤسس ورئيس إذاعة صوت اليمن الخاصة، لضرب مبرح من مسلحين تابعين لجماعة الحوثي في حي الصافية بوسط صنعاء، بسبب معارضته الشديدة للجماعة، ومطالباته المستمرة باستعادة الإذاعة، وتعبيره الصارخ عن معاناة انقطاع المرتبات، في مؤشر على أن هذه الجماعة ليست مستعدة أبداً لأن تنجز سلاماً فردياً مع من تضررت مصالحهم الخاصة بشكل مباشر، وليست مستعدة للإقرار بعدالة قضاياهم الخاصة، كمصادرة وسائل الإعلام الخاصة بهم والسطو على المنازل ومصادرة الممتلكات، والأهم من ذلك الاستمرار في حرمان الناس من مرتباتهم وأرزاقهم.
هذا النوع من القسوة والقوة المفرطة أنتج ردةَ فعلٍ معاكسةً من النخبة التي تعيش في صنعاء، وهي خليط من ساسة وقضاة ومفكرين ووجهاء اجتماعيين وبيروقراطيين وكتاب رأي، وتتعالى أصواتها منذ سنوات ضداً على الممارسات التي تقوم بها جماعة الحوثي وتقود معها البلاد نحو ارتداد فظيع إلى الماضي المظلم البئيس وإلى الهيمنة الطائفية المقيتة، وتكاد تقضي على النقاط المشتركة التي جمعت هذه النخبة مع الجماعة الانقلابية في صيف 2014.
لقد أظهرت نخبة صنعاء شجاعةً كبيرةً في مواجهة هذا الصلف والاستخدام المفرط للقوة، وباتت تمارس قيادة فعلية لحراك من المؤكد أنه سيأخذ أبعاده الميدانية قريباً، في ظل انسداد الأفق وحالة اليأس المتراكمة، وهو ما قد يغير المشهد اليمني برمته إذا ما تحرك الشارع تأسيساً على يقين ثوري جامع هذه المرة حيال التهديدات الوجودية للدولة والجمهورية والديمقراطية والكرامة الإنسانية.
واللافت من ردود الفعل على مستوى الشارع في صنعاء وعبر مواقع التواصل الاجتماعي؛ أن صفوة المجتمع كما القاعدة العريضة منه باتت أكثر استعداد لمواجهة القوة، التي أنتجت لا مبالاة حقيقية تجاه النتائج التي يمكن أن تسفر عن معاودة الجماعة الاستخدام المفرط لهذه القوة وللسلاح وممارسة الهيمنة الطائفية الصارخة، خصوصاً في تجلياتها المتمثلة في الترهيب الفكري والابتزاز العقائدي، وإظهار الصلف في التمثيل الحصري للإسلام وتكريس فئويته على النحو الذي نراه في صنعاء اليوم، ويُذكِّرُنا بالوصفة ذاتها المعتمدة في بيروت ودمشق وبغداد، حيث تهيمن المنظومة الإقليمية الأقلوية التابعة لإيران في منطقتنا، وتتجلى بسببها مظاهر البطش الطائفي في أبشع صورها في هذه البلدان.
على أن كل شيء يبدو أنه يعاكس ما خطط له الحوثيون وما أَمِلَتْ إيرانُ في تحقيقه عبر نفوذ لا محدود لها في اليمن من خلال الحوثيين. فهذه الجماعة تكاد تفقد نفوذها السياسي والسلطوي أمام ردة فعل المجتمع الساخط والغاضب نتيجة الأنانية التي أظهرتها وأظهرها قادتها الفئويون تجاه الناس وصلفهم في التلذذ بمعاناة الناس وإيذائهم، وفوق هذا وذاك استمرار الجماعة في عدم صرف المرتبات رغم الفرص السانحة التي توفرت بعد إعادة فتح ميناء الحديدة كمنفذ شبه حصري لاستيراد السلع الأساسية لمناطق الكثافة السكانية الأكبر في اليمن، وحصولها على منح نفطية وغازية كبيرة تقوم بإعادة بيعها في السوق بأسعار باهظة، ومع ذلك تمتنع عن إعادة توجيه جزء من هذه العائدات لصرف المرتبات.
تصر الجماعة على تسلم موازنة المرتبات من الحكومة الشرعية كما كانت عليه عام 2014 وليس طبقاً لكشوفات الموظفين في ذلك العام، بما خالف ما تم الاتفاق عليه في ستوكهولم وما نصت عليه تفاهمات الهدنة، والتي تشير بوضوح إلى أن المرتبات سوف تسلم للموظفين بشكل مباشر وفقاً لكشوفات العام 2014، أي السنة التي انقلب فيها الحوثيون على السلطة الانتقالية.
ذلك يعني أن الجماعة تريد أموالاً تستخدمها في بناء منظومتها الوظيفية الولائية والطائفية، وتصريف الجزء المتبقي من المبلغ في تعزيز إمبراطوريتها المالية، وتأمين الموارد العسكرية لحرب من المؤكد أنها ستبقى خيار الجماعة للإبقاء على نفوذها وربما تعزيز هذ النفوذ خارج مناطق سيطرتها، خصوصاً إذا تأكدت أن السعودية ماضية في تحقيق أهدافها الجيوسياسية، التي تتقاطع بالتأكيد مع الأهداف السيئة للانقلابيين والانفصاليين، بل وتستند إلى المشهد الفوضوي الراهن، الذي تتآكل فيه القيمة السيادية للشرعية بشكل مخيف.
(عربي 21)
اقراء أيضاً
عن الاعتداءات الصهيونية على الحديدة يوم السبت!
خارطة الطريق اليمنية إلى جحيم الحرب الحقيقية
لماذا كل هذا الرهان على مفاوضات مسقط الإنسانية الاقتصادية؟!