ينظر الكثير من المراقبين للمشهد اليمني بشيء من الغرابة والضبابية التي يضفيها الواقع اليمني المعقد أصلا والذي زاده طول أمد الحرب مزيدا من التعقيد، ولهذا تبدو الصورة أكثر غموضا وضبابية من أي وقت مضى اليوم مع اقتراب الحرب من إكمال عامها السابع، من دون أي أفق للحسم لا سياسيا ولا عسكريا، لأسباب عدة لا مجال لتفصيلها هنا.
أما الحوثيون في هذه الحرب، فرغم الصورة الملتقطة لهم اليوم بمرايا مقعرة لتضخيم فكرة صمودهم طوال هذه الحرب وظهورهم كطرف فاعل ومؤثر في المشهد اليمني الراهن، فهي صورة ليست حقيقية، ففيها من التوظيف الدعائي أكثر مما هي على أرض الواقع، بالنظر إلى أن الحوثيين عقب انقلاب 21 أيلول/سبتمبر 2014 كان اليمن كله في قبضتهم ولديهم كل مقدرات الدولة، التي أسقطوها وفي مقدمتها الجيش، الذي كان يٌعد سادس جيش عربي.
وبمقارنة بسيطة بين لحظتين، لحظة انقلاب ميليشيات الحوثي وهذه اللحظة، فالحوثي خسر كثيرا، على كل المستويات، كانت جغرافية اليمن كلها تحت يديه، لم يعد له اليوم سوى 30 في المئة منها، وهو اليوم أضعف بكثير من أي وقت مضى وخاصة وهم عاجزون عن إعادة سيطرتهم على المناطق التي سقطت منهم ككل مساحة جنوب اليمن ومأرب وتعز والساحل الغربي، هذا عدا عن فشلهم الذريع في إيجاد شكل بسيط للدولة في مناطق سيطرتهم التي لم تعد موجودة في نظر المواطنين هناك، فلا رواتب ولا حرية ولا أمن ولا استقرار.
قد يقول قائل اليوم، أن الحوثي أصبح أهم الفاعلين الرسميين في المشهد اليمني، من زاوية قدرته على إلحاق الأذى بمنظومة أمن المنطقة وخاصة تهديده للسعودية. لكن بنظرة دقيقة لهذه الزاوية سنجد أن إيران وليس الحوثي من يشكل هذا الخطر بالنظر إلى أن العديد من الضربات التي يتبناها الحوثي مصدر إطلاقها العراق وإن تبنى الحوثي مسؤولية ذلك.
وقد فشل الحوثي تماما، في إقناع الداخل اليمني قبل الخارج، أنه يمكنه أن يصبح دولة لكل الناس، وأن يحقق لهم شيئا من مطالبهم الأساسية والبسيطة كتوفير الغذاء والماء والدواء، عدا عن الحديث عن الحرية والكرامة والنظام والقانون، في ظل جماعة تكرس رؤية وحيدة للدولة والدين معا وفقا لما تريد هي تقديمه باعتبارها جماعة مختارة من السماء لحكم الناس وعلى الناس السمع والطاعة لها، باعتبار ذلك هو الإسلام كله.
مثل هذه الفكرة التي تؤمن بها جماعة الحوثي، تجعلهم يقفون اليوم عاجزين عن الاندماج في صميم المجتمع اليمني، الذي بات ينظر لهم بشيء من الغرابة وعدم القبول به، وأصبح الناس في مناطق سيطرة الحوثي، يعيشون حالة مفاضلة بينهم وبين سلطة الحوثي، التي لا تمثلهم ولا تشبههم ولا يشبهونها.
أما فيما يتعلق بفكرة الدولة التي يحملها الحوثي، فكل يوم يثبت أن بينه وبينها سنوات ضوئية فلا يزال ينظر للدولة بذلك المنظار التاريخي المذهبي القديم القائم على فكرة الإمام صاحب السلطات المطلقة، والقداسة الكبيرة، التي يجب أن ينظر له بها الناس، وخاصة في مجتمع كالمجتمع اليمني، الذي خبر فكرة الدولة بكل مساوئها باكرا، وفكر الديمقراطية والتعددية السياسية والثقافية، وكل هذه القيم لا يؤمن بها الحوثي مما أوجد حالة فصام شديدة بينه وبين المجتمع.
والأخطر في كل هذا، أن الحوثي ماض في بناء سلطته الطائفية في مجتمع نابذ للطائفية والمذهبية والعرقية، مجتمع متمرد على كل شيء، ومع ذلك يمضي الحوثي في تكريس نمط معين وجاهز لديه، لفكر الدولة الطائفية التي تأتمر بأوامر السيد القائد، باعتباره المرجع المقدس للدولة وصاحب الأمر والنهي فيها فوق الدستور والقانون، بل المتصرف الأوحد بها.
غياب الشرعية
كل يوم يمضي، يضع الحوثي مسماراً في نعش سقوطه، لأن فكرته نقيضة لمفهوم الدول أولا، والسلام الاجتماعي ثانيا، والعدالة والمساواة ثالثا، مما يصعب الأمر كثيرا على هذه الجماعة، التي تعتقد وتظن أنها بمثل هذه الإجراءات الصارمة في حق المجتمع الذي تريد تشكيله، يمكنها التحكم به.
لكن في المقابل، أين هي الشرعية من كل هذا الذي يقوم به الحوثي في المناطق التي تحت سلطته وسيطرته؟ لا شك أن غياب وضعف فعالية الشرعية، هي سبب كل ما يقوم به الحوثي في المناطق التي تحت سيطرته، وأن مسؤولية الشرعية كبيرة لكنها في الحقيقة لم تقم بمسؤولياتها، وبقت تتفرج على المجتمع الذي كان يعول عليها كثيرا في إيقاف عبث ميليشيات الحوثي بالمجتمع ومؤسساته الإعلامية والتربوية والمدنية أيضا.
بات واضحا اليوم أن الحوثي ليس قويا، وأنه ربما في أضعف حالاته، وأن من يمنحه كل هذه القوة، هو فشل وعجز وضعف الشرعية ومن خلفها فشل التحالف وأجنداته المخفية في اليمن، تلك الأجندات التي تكشفت عن كل هذا العجز والأخطاء الكارثية التي لن تقتصر أضرارها على اليمن فحسب بل وعلى المنطقة كلها.
سبع سنوات مضت في حرب لا أفق لها، في ظل عبث التحالف بالمعركة والمشهد اليمني ككل، وكل سياسات التحالف صبت في صالح جماعة الحوثي وتمكينها وتقويتها بطريقة غير مباشرة أو غير مباشرة، ومع ذلك لأن مشكلة الحوثي مع الداخل اليمني وليس مع الخارج، باعتباره جماعة طائفية، تريد فرض رؤيتها الخاصة على المجتمع اليمني المتعدد، فشل في الانتقال من فكر الجماعة الطائفية إلى مرحلة الدولة الوطنية، عدا عن مرحلة السلطة الوطنية.
حاول الحوثي ويحاول أن يحقق اختراقا في جدار المشروعية السياسية للمجتمع اليمني، وبقي عاريا من دون أي مشروعية سوى مشروعية السلاح والأمر الواقع، وهي مشروعية لا ينبني عليها أي استحقاق لقيام دولة للجميع وخاصة في ظل المقولات المذهبية الحاكمة لمناطق سيطرته من قبل فكرة الإمام الحاكم المقدس، وفكرة الخٌمس والولاء وتضخم سلطة الجباية الدينية لأموال الناس ومصادرة أملاكهم وحقوقهم، وهو ما يجعل هذه الجماعة في نظر المجتمع مجرد جماعة ميليشياوية.
ربما ما لا يدركه الحوثيون، ويدركه اليمنيون جيدا، أنه لا يمكن لهذه الجماعة أن تحكمهم وتفرد سيطرتها على كامل الجغرافية اليمنية وأنه لولا الفشل والتمزق الحاصل في جسد الشرعية القائمة، وفشل التحالف وأجنداته، لسقط الحوثي مجتمعيا وبدون قتال، لأنه فشل في أن يوفر أبسط مقومات فكرة الدولة، الماء والغذاء والدواء، والأمن والحرية والكرامة المنعدمة في قاموس هذه الجماعة، وبالتالي سيظل الحوثي فكرة معزولة مجتمعيا وإن تمادى في فرض رؤيته على المجتمع.
هذا الفشل الكبير للحوثيين، أمام اختبار الدولة، وفشل الشرعية أمام مسألة السيادة وفشل ميليشيات الانفصال أيضا مجتمعيا، كل هذه المعادلة المعقدة تجعل المجتمع اليمني يفكر بخيارات أخرى محلية، عدا عن أن مجموع هذا الفشل يعزز فكرة الدولة الوطنية وأهمية وجود العقلاء للدفع نحو خيار العودة إلى طاولة الحوار بعيدا عن السلاح الذي تستقوي به وتقيم شرعيتها عليه الميليشيات الموجودة شمالا وجنوبا، وأن الدولة الوطنية وحدها هي المدخل لحلحلة المأزق اليمني الكبير، ولا يمكن الخروج منه إلا بها.
*نقلاً عن القدس العربي
اقراء أيضاً
غير المنظور في الأزمة اليمنيّة
التنوير المجني عليه عربياً
إيران وإسرائيل وشفرة العلاقة