سباق محموم على التقاسم المبكّر لمكاسب الحرب في اليمن، بين محرِّكيها الخارجيين، الإقليميين والدوليين، بالتزامن مع تعيين السويدي، هانز غروندبرغ، مبعوثًا للأمم المتحدة، خلفًا للبريطاني، مارتن غريفيث، وفي سياق محدّدات استراتيجية لمحرِّكي هذه الحرب، واستجداد شواغل وتهديدات أمنية في بحر العرب وخليج عدن والبحر الأحمر. والملمح الأبرز لهذا السباق الظهور العسكري القوي، والمفاجئ، لبريطانيا في الأزمة اليمنية، عبر إرسالها وحدة عسكرية صغيرة من 40 جنديًّا إلى محافظة المَهْرة اليمنية، على الحدود الجنوبية الغربية لسلطنة عُمان، وتضَمُّن هذه الوحدة وحدةً أصغر تضطلع بمهمة إدارة الحرب الإلكترونية، وربط وتنسيق الاتصالات مع مجموعة من الأصول البحرية البريطانية، المنتشرة في الخليج العربي، وشمال غربي المحيط الهندي.
هذا الظهور سبقه، قبل حوالَي عام، جَدلٌ خافت بشأن وجود قوات بريطانية، في محافظة المهرة، تعمل إلى جانب القوات السعودية. ولم يُحدَّد، على نحو دقيق، حجم تلك القوات، خلافًا لما أُفصح عنه هذه المرَّة، وهذا كله وذاك، إنما يُشير إلى التحوّل الدراماتيكي للسياسة البريطانية تجاه الأزمة اليمنية، في وقتٍ توصف فيه بريطانيا بحاملة القلم في مجلس الأمن، بشأن هذه الأزمة، وهو مدخل نفوذٍ سياسيّ يُعاضده المدخل العسكري الجديد.
الذريعة التي ساقتها مصادر عسكرية في وزارة الدفاع البريطانية، إزاء هذا الإجراء، تتعلق بمقتل بحار بريطاني، كان ضِمن طاقم الناقلة "ميرسر ستريت"، المملوكة لرجال أعمال إسرائيلي مقيم في بريطانيا، إثر تعرُّضها لهجوم بثلاث طائرات غير مأهولة (مسيَّرة من دون طيار) قبالة سواحل سلطنة عُمان، نهاية الشهر الفائت (يوليو/ تموز). وتشير اتهامات الأطراف المتضرّرة، مثل بريطانيا وإسرائيل، إلى أن إيران تقف خلف ذلك، وأن منطقةً ما، في محافظة المهرة اليمنية، كانت مصدرًا لإطلاق هذه الطائرات.
إيجاد مثلِ هذه الذرائع سياسة بريطانية قديمة، سبَق أن اكتوى جنوب اليمن بنارها، 129 عامًا من الاحتلال، على خلفية غرق السفينة "داريا دولت"، المملوكة لشركة الهند الشرقية التابعة لبريطانيا، قبالة ميناء عدن؛ حيث استَغلت بريطانيا حادثة الغرق، وما نجم عنها من تداعيات، لاحتلال مدينة عدن عام 1839. وقد تمكَّنَت من ذلك بعد معركة غير متكافئة خاضتها أمام الحامية العسكرية للمدينة، والسُّكان العُزَّل، وهو مشهدٌ يتكرَّر اليوم مع محافظة المهرة، بطُرقٍ وأدواتٍ أقل عنفًا، وفي ظروفٍ باتت البلاد فيها ممزّقة أشد تمزق.
لافتٌ أن نشر بريطانيا قواتٍ لها في المهرة جاء بعد تلميحاتٍ سابقة لرئيس وزراء بريطانيا، بوريس جونسون، خلال جلسة في مجلس العموم، في مارس/ آذار الماضي، لكنه أشار إلى أن ذلك سيكون تحت مظلة الأمم المتحدة، وربما كان المقصودُ نشرَ قواتِ سلام، وليس قواتٍ ذات مهمة خشنة، من قبيل ما حصل أخيرًا؛ إذ قال، حينذاك، إن الظروف المطلوبة في اليمن ينبغي أن تكون مختلفة عن وضعها الراهن، لتمكين أي قواتٍ بريطانيةٍ من التمركز في المكان المخصص لها في اليمن.
بعيدًا عن مسلك النيات الحسنة في تفسير ما قاله جونسون، فإن ما بات واقعًا مدركًا على الأرض لدليلٌ قاطع على أن ثمّة ترتيباتٍ تتجاوز الزمان والمكان، والإرادة الوطنية، ممثلةً بالحكومة المعترف بها دوليًا، التي لم يُمكِّنها التحالف العربي من فرض سيطرتها المستقلة على محافظة المهرة، بدلًا من نشر قوات سعودية وبريطانية، وأن هذه الترتيبات مبنيةٌ على تطلعات مستقبلية، وليس استجابة لحظية لحادث بحري، لا يرقى إلى مستوى هجوم الحوثيين على سفينين حربيتين تابعتين للولايات المتحدة الأميركية، قبالة مدينة (ميناء) الحديدة أواسط عام 2017، وهناك هجماتٌ واحتجازاتٌ كثيرة تعرّضت لها السفن البريطانية وغيرها من السفن في بحر العرب، ومضيق هرمز، من دون أن تتخذ بريطانيا تدابير من هذا القبيل داخل الأراضي العُمانية أو الإماراتية.
الواقع أن مكسب الحرب الأهم لبريطانيا، والولايات المتحدة، وأدواتهما الإقليمية المنخرطة فيها، بزعم مساندة الحكومة اليمنية المعترف بها دوليًا، يتمثل في السيطرة على مدن الساحل الجنوبي لليمن، وهذه المدن، سوى المهرة، خاضعة، بطريقة أو بأخرى، لوكلاء محليين (جماعات مسلحة). والسيطرة على المهرة تعني، في الوقت ذاته، السيطرة على جزيرة سقطرى التي ترتبط بها ارتباطًا استراتيجيًا، تاريخيًا، وجغرافيًا، وديموغرافيا.
ولعل مما يستدعي الاستحضار التاريخي، في هذا السياق، الإشارة إلى أنه في وقتٍ كانت فيه بريطانيا تفاوض سلطان المهرة وجزيرة سقطرى، عام 1834، لإبرام معاهدة لاستغلال الجزيرة في تخزين الفحم المستخدم وقودا للسفن؛ كانت قواتها البحرية تهاجم الجزيرة، لإخضاعها بقوة السلاح. ولكن لا يبدو الوضع كذلك مع الحكومة المعترف بها دوليًا، في الوقت الراهن، بالنظر إلى مواقف سابقة تعارضت مع إرادة هذه الحكومة. ولا يمكن قراءة الانعقاد المفاجئ لمجلس الدفاع الوطني اليمني في هذا السياق؛ لأن ما يُحْدق بهذه الحكومة ومؤسسة الرئاسة من مخاطر قد يكون المحور الرئيس لهذا الاجتماع.
*نقلا عن العربي الجديد
اقراء أيضاً
مفاوضات السلام اليمنية وتراجع الأجندات الخارجية
برلمان اليمن وحكومته: ضَعُفَ الطالب والمطلوب
"الانتقالي الجنوبي" ولعبة الإرهاب في أَبْيَن