كثيراً ما دندن المراقب العربي على مآلات الحال في الصومال الشقيق، وكانت اللازمة الثابتة في تلك الدندنة الاعتقاد الواهم بأن الصوماليين لن يستطيعوا التعافي من النزعة القبلية التي أضافت للحرب الأهلية المديدة وقوداً واشتعالات متزايدة، لكن هؤلاء المراقبين بجملتهم لم يتتبعوا الروح الوطنية الجامعة التي تنامت عند الصوماليين على مدى العقدين الماضيين، وكان من أبرز مؤشراتها المعنوية البقاء على واحدية الهوية والأرض والإنسان، فجميع الصوماليين ظلوا يلتحفون العلم الأزرق ذا النجمة البيضاء، والذين تداعوا مع الانفصال في الإقليم الشمالي لم يميزوا البتة بين صوماليي الشمال وصوماليي الجنوب، بل أصبحت (جمهورية أرض الصومال) الانفصالية، وولاية (بونت لاند) الاتحادية حاضنين واسعين لعموم الصوماليين الهاربين من جحيم الحرب الأهلية في الجنوب.
بمقابل هذه الروح الوطنية المخرسنة بالواحدية تنامت العقلية السياسية العامة لتغادر ثقافة الحرب الأهلية وبلاياها، وكان التخلي الحر عن التعصب القبائلي ضيق الأفق مقروناً بقبول الآخر المختلف، والأخذ بنموذج الدولة الاتحادية اللا مركزية، وتجيير الهوية الصومالية على المواطنة القانونية، واعتبار الشراكة أصلاً أصيلاً في دستور الدولة الصومالية الاتحادية العصرية، واعتبار التناوب السلمي للسلطة المعيار الأسمى للتوافقية الوطنية العاقلة، وكانت النتيجة الناجزة لهذه الرؤى تناوباً سلمياً لرئاسة الدولة.
فخلال العقدين الماضيين تناوب الصوماليون المناصب السيادية العليا برشاقة وقناعة قلما عرفناها في العالم العربي الموبوء بالإقامة الجبرية في مرابع الماضي البائس، وما حدث ويحدث في ليبيا واليمن وسوريا خير شاهد على الميزة الرفيعة للنموذج الصومالي. فخلال العقدين الماضيين تناوب رئاسة الدولة عديد الرؤساء، وكان التسليم الحضاري للسلطة ظاهرة لافتة، وقد ارتقت قيادات الصف الأول إلى مستوى الشجاعة الأدبية الناظرة لاستحقاقات المستقبل، وقد تتوج هذا التقليد الرفيع بانتقال السلطة للرئيس الحالي محمد عبدالله فارماجو، وبهذه المناسبة لا بأس من الإشارة إلى أن وصول فارماجو لسدة الرئاسة جاء بمثابة جواب حضاري لصراع قبائل (الهوية) و(داروود)، وإشارة صريحة إلى تجاوز تلك المحطة القاتلة في تاريخ الصومال،
فالرئيس الحالي أثبت منذ كلماته الأولى تخليه التام عن ثقافة القبيلة والعشيرة في بعديها الأكثر عصبوية وضلالاً، وجاءت دعوته لمحاربة الانقسام المجتمعي تأكيداً على ثقافته المدينية العابرة للانتماءات الضيقة.
ولقد ارتقى حكماء البلاد لتلك المثابة عندما قرروا التصويت لصالح من يرونه مناسباً بغض النظر عن أصله وفصله، ولم يشكل هذا الإجماع النسبي أدنى قلق لدى منافسيه الكبار، ممن قبلوا النتيجة برحابة شجاعة، وأمسكوا بيدي الرئيس المنتخب تعبيراً عن التضامن من أجل الوطن والأمة، وتأكيداً لا رجعة فيه على أن أهل الصومال قد انعتقوا من مثالب الماضي وسيذهبون بعيداً في خيار الوطن والمشاركة وعدم التمييز، وقد كان الرئيس المنتخب فارماجو صادقاً في تحديد معالم المستقبل، من خلال أهدافه المعلنة في محاربة الفساد والتطرف وقطع دابر الانقسامات المخلة بالتضامن والوحدة والتطور.
قدم الصوماليون مثلاً ناصعاً لأشقائهم العرب، وباشروا تقديم الخيار الناجع لمن يريد تجاوز المحنة نحو الازدهار، وما كان لهذه الثمار أن تصل إلى ما وصلت إليه لولا النضوج المقرون بالمعاناة، والحلم الكبير المقرون بالأنين والتعب، والاستفادة من مثالب الماضي بحثاً عن مخارج للمستقبل.
*الخليج الإماراتية
اقراء أيضاً