ثمة حقائق يجب أن ندركها قبل أي حديث عن الثورة الشبابية السلمية التي بدأت باحتجاجات طلابية في 15 يناير وبلغت ذروة حراكها في #11فبراير وما تلاه من أحداث.
أولى هذه الحقائق أن تلك الاعتصامات والاحتجاجات والمظاهرات كانت في إطار القانون، ولم تكن خروجاً عليه، ومهما كانت مطالبها والشعارات التي رفعتها، إلا أن جميع فعاليات ومناشط الثورة لم تتجاوز المكفول والمسموح به في القانون اليمني.
الحقيقة الثانية، الثورة لم تكن ملكاً لفئة أو حزب أو قوة بذاتها، بل كانت حاضنة لهم جميعاً، وإن نُسبت إلى الشباب فلأنهم أول من أذكى أوارها وأشعل فتيلها وكسر حاجز الرهبة من سطوة النظام.
الحقيقة الثالثة، ما كان للحركات الاحتجاجية والاعتصامات التي اندلعت في 17 محافظة يمنية أن تستمر لأسبوع واحد بدون رافعة سياسية تتبنى مطالبها وتمنحها البعد الدبلوماسي للتعاطي الدولي والإقليمي مع تلك المطالب، وإلا ما كانت لتُعتبر أكثر من احتجاجات طلابية أو عمالية سرعان ما تفضها هيراوات الأمن المركزي ومسيلات الدموع. وهذا الغطاء هو الذي وفرته أحزاب اللقاء المشترك وأدواتها السياسية والإعلامية والجماهيرية.
الحقيقة الرابعة: بدأت ثورة فبراير سلمية واستمرت سلمية واكتملت سلمية. وأي حديث عن عنف وإرهاب داخل الساحات أو حولها ما هو إلا محض هراء وتزوير.
انتهت صلاة الجمعة في 18 مارس آذار 2011، على أصوات الرصاص، تُمطر أجساد الشباب المعتصمين في ساحة التغيير بصنعاء، لتسجل الثورة أولى محاولات صالح جرّ سلميتها إلى مربع العنف، ودفْع شباب الساحات إلى مواجهة الرصاص بالرصاص، وهذا ما أدركه الشباب العزّل داخل الساحة فواجهوا تلك الرصاص بصدور عارية حتى تمكنوا من إيقاف القناصين والمسلحين المنتشرين في العمارات المجاورة لساحة التغيير، بعد أن سقط منهم 52 شهيداً، خلال ساعة واحدة، ولم يسقط قتيل واحد من المسلحين. وهي ما باتت تعرف بعد ذلك بأحداث "جمعة الكرامة"
على الرصيف القريب من جولة سيتي مارت أو القادسية، جلس شيخ قبلي مع مجموعة من أقاربه وأبناء قبيلته وهو يقول لهم: "الشباب ما يشتوها إلا سلمية وإلا قسماً بالله ان البيت متروس سلاح لادين أبوه.. ما يخطى بلطجي".
كان تجريد الثورة الشبابية من سلميتها هاجس صالح الذي أرق لياليه، واستخدم من أجله كل الحيل المشروعة وغير المشروعة، هذه السلمية التي ظلت استراتيجية الثورة وخيارها الأوحد في التعبير عن مطالبها وتحقيق أهدافها مهما كان الثمن، كون التخلي عن خيار السلمية سيترتب عليه أثمان أكثر كلفة على مستقبل الثورة ومآلات الأحداث برمتا.
تطورت الأحدث بشكل دراماتيكي متسارع بعد جمعة الكرامة. لقد انهار شطر النظام وهو الأمر الذي لم يتوقعه صالح أو يعمل له حساب، بعد انضمام أقوى رجاله وركن نظامه المتين، القائد العسكري اللواء علي محسن الأحمر، لثورة الشباب وإعلانه رسمياً حماية الساحات التي تقع في نطاق نفوذه العسكري. لقد فقد صالح صوابه وهو يرى رجال نظامه يهرولون نحو الساحات زرافاتٍ ووحداناً.
هذا الانشقاق الكبير في نظام صالح منح الثورة الشبابية ثقلاً سياسياً واجتماعياً، ولفت إليها اهتمام السياسيين والنافذين، الذين وجدوا أنفسهم مضطرين إلى تحديد موقف من هذه الثورة بعد انضمام الكتلة الأكثر ثقلاً ونفوذاً في نظام صالح إليها والإعلان رسمياً عن حمايتها وتبني مطالبها.
جمعة الكرامة والانشقاق العسكري والمدني داخل نظام صالح وحزبه، وفروا الفرصة الأولى لإسقاط نظام صالح كلياً وانتزاع حكمه من خلال فرض واقع عسكري على مؤسسات الدولة في العاصمة صنعاء، مستغلين حالة الصدمة التي أصابت صالح شخصياً وأجهزته الأمنية، إلا أن المظاهرات والاحتجاجات استمرت مطالبة صالح بتسليم النظام سلمياً وفق الآليات الدستورية أو التوافق الوطني بين جميع الأطراف. وكان هذا أول اختبار للثورة الشبابية تجاه مسؤوليتها في الحفاظ على الدولة كبنية سياسية وقانونية، لا يمكن هدمها بتصرفات انفعالية وقتية، أو أدوات طارئة تفضي إلى نظام أكثر سوءً من نظام صالح، كما حدث بعد ذلك في 21 سبتمبر 2014. تزامن هذا التصعيد في الاحتجاجات مع أول تحرك للأطراف السياسية المؤيدة للثورة من خلال التفاوض على مقترح طٌرح في 23 أبريل 2011 بتنحي صالح عن الحكم ونقل صلاحياته بعد شهر لنائبه وتشكيل حكومة وفاق وطني، الاتفاق الذي قبله صالح في بادئ الأمر، ثم ما لبث أن ذهب بعيداً.
مرت الأيام بعد أحداث جمعة الكرامة، وثورة الشباب تشهد زخماً جماهيرياً متزايداً، وتوسعت الساحات في كل من صنعاء وتعز وعدن. في الوقت الذي كان صالح يعيد ترتيب أوراقه وفق متغيرات الوضع الجديد واختلاف موازين القوة وحركة مقاعد التحالفات حول طاولة النظام، وهو الثعلب العنيد الذي يراوغ ويحتال ولا يستسلم.
ليلة التاسع والعشرين من مايو 2011، كانت قوات الأمن والعصابات المسلحة الموالية لنظام صالح تحاصر ساحة الحرية بمدينة تعز، أشعلوا النار في خيام المتظاهرين، وداهموا خيمةطبية ممتلئة بالمتظاهرين الجرحى، ثم هدموا المخيم بالجرافات. ومع حلول الفجر، كانت الحصيلة 15 قتيلاً من المتظاهرين و260 مصاباً، وكالعادة لا قتلى أو جرحى بين قوات الأمن والعصابات المسلحة. وهي محاولة أخرى لأجهزة أمن صالح بتوريط ثورة الشباب بأعمال عنف تجر مسار الاحتجاجات إلى مربع المواجهة المسلحة.
في 23 مايو 2011 شب خلاف بين أفراد من جنود قوات النجدة ومسلحين تابعين للشيخ القبلي صادق الأحمر بحي الحصبة في صنعاء، تطورت بعد ذلك إلى مواجهات بالأسلحة الثقيلة والمتوسطة، شاركت فيها وحدات من الأمن المركزي وأخرى من الحرس الجمهوري الموالية لصالح، في خطوة رآها مراقبون في حينه، تعنتاً من صالح تجاه المبادرة القاضية بتنحيه عن الحكم التي قدمها مجلس التعاون الخليجي، بالإضافة إلى كون هذه المواجهات المسلحة محاولة جديدة من صالح لحرف مسار الثورة عن خيارها السلمي، وإخراج الشباب من خيام الاعتصام إلى المتارس، حين أوهم إعلام صالح الرأي العام المحلي والإقليمي أن المواجهات المسلحة الدائرة في حي الحصبة القريب من ساحة التغيير لم يكن إلا بين شباب الساحات المدججين بالأسلحة وبين قوات الأمن الحكومية، مستغلاً إعلان الشيخ صادق الأحمر تأييده لمطالب الثورة الشبابية عقب أحداث جمعة الكرامة، رغم علاقة الصداقة التي تجمع الرجلين.
مرّ أسبوعان والمواجهات المسلحة في حي الحصبة تزداد ضراوة وتستخدم فيها مختلف أنواع الأسلحة.
وفي الثالث من يونيو حدث شيءٌ لم يكن بالحسبان غير مسار الأحداث، انفجر مسجد دار الرئاسة أثناء تأدية صالح وعدد من أركان نظامه صلاة الجمعة، نتج عنه إخراج صالح إلى الرياض لتلقي العلاج بعد أن استلم اللواء عبد ربه منصور هادي مهام الرئيس بموجب الصلاحيات التي يمنحها له الدستور والقانون كنائب للرئيس.
الفراغ الذي تركه صالح وحالة الذهول التي أصابت نظامه وأنصاره وأجهزته الأمنية للمرة الثانية، قدمت فرصة أخرى للجيش المناصر لثورة الشباب ومؤيديها من رجال القبائل للانقلاب على حكم صالح وانتزاعه تحت لافتة الشرعية الثورية أو أي مسمى يمكن صكه لتحقيق هذه الغاية، إلا أن شيئاً من ذلك لم يحدث وبقيت الساحات على حالها مستمرة في الاحتجاجات والتصعيد السلمي.
لم يكن من السهل تحمل التبعات السياسية والقانونية المترتبة على الاستيلاء على السلطة وفرض واقع تحت لافتة الشرعية الثورية أو تشكيل مجلس انتقالي لإدارة شؤون البلاد، وتعريض الدولة ومؤسساتها للتفكيك والانهيار. وللمرة الثانية تتحمل الثورة الشبابية السلمية مسؤوليتها الأخلاقية تجاه الدولة ومؤسساتها، لتستمر في تصعيد الاحتجاجات المطالبة بتسليم السلطة سلمياً وفق آليات آمنة تحفظ للدولة كيانها ومؤسساتها.
لقد كان صالح وحزبه ونظامه محظوظين بهكذا خصوم أو كانت البلاد محظوظة بهكذا ثائرين.
استمرت الوحدات الأمنية العسكرية الموالية لنظام صالح باستهداف شباب الثورة السلمية في المسيرات والمظاهرات، سيما المسيرات التي كانت تقترب من المنطقة الخضراء، حي حدة ودار الرئاسة. قتل في ثلاثة أيام فقط بشارع الزراعة وحي القاع وجولة كنتكي بشارع الزبيري 162 شاب من شباب الثورة، وتطورت الاعتداءات إلى مواجهات مسلحة بين تلك الوحدات وبين النقاط الأمنية التي فرضها الجيش الموالي للثورة حول ساحة التغيير لحمايتها، واستمرت المواجهات في شوارع هايل والزبيري والزراعة والقاع. إلى أن توقفت بعد ذلك بتدخل من عبد اللطيف الزياني أمين عام مجلس التعاون الخليجي في حينه.
لقد صمدت سلمية الثورة الشبابية، بصورة خرافية حيّرت العالم، أمام هول العنف والإرهاب الذي مارسه صالح وأجهزته الأمنية ووحداته العسكرية ضد ساحات الاعتصام في مختلف المحافظات، وسقط عشرات الشباب العزّل طيلة عشرة أشهر من عمر الثورة شهداء أمام نيران صالح وإرهابه.
لقد أنهكت سلمية الثورة قوة صالح النفسية والأمنية، وأجبرته على العودة إلى الخط السياسي، عله يجد مخرجاً لما لاقاه من صلابة الثورة الشبابية وثباتها على الخيارات السلمية والقيم الوطنية، لقد راوغ كثيراً حيال المبادرة الخليجية التي أعلنت الأطراف السياسية المؤيدة للثورة موافقتها عليها وعلى آليتها التنفيذية منذ وقت مبكر، ملقية بالكرة في ملعب صالح، لتكشف نواياه المتلاعبة بمصير الثورة الشبابية والنظام والبلاد كلها.
23 نوفمبر 2011 مساءً، ظهر صالح على شاشات التلفزة وهو يبتسم ابتسامة المُدّرب (الذي سقط على الأرض) ممسكاً بقلم. إنه يوقع وثيقة تنازله عن السلطة وفق دستور البلاد، المبادرة الخليجية التي توافقت عليها كافة الأطراف السياسية الممثَّلة في البرلمان بمن فيها صالح وحزبه.
هذه الصورة تحمل من الدلالات الكثير لمن يحسن قراءة الأحداث ويعطيها حقها من التدقيق والنظر، سيدرك مستوى التفوق لسلمية الثورة الشبابية على خيار العنف والإرهاب الذي واجهها صالح به. ليجد نفسه (أي صالح) في نهاية الأمر أمام اتجاه إجباري رسمته سلمية الثورة من أول أيامها، وأن الرضوخ أمام خيار السلمية ليس منه بد.
اقراء أيضاً