كُنتُ هناك، وما زال بعضٌ مني، على الرغم من مرور ثلاثين عاماً، يمكثُ في تلك اللحظة التي لا تُنسى، حين تضمخت الدنيا كلها بعبقٍ استثنائي غير معهود، فاح من اختلاط هواءٍ يحمل رائحة مليون شهيد في بلادٍ ما انفكّت تعلن وقوفها إلى جانب فلسطين ظالمة أو مظلومة، مع صدى صرخةٍ مدويةٍ بشرت، حِينَئِذٍ، بقرب انتهاء الظلم التاريخي على أرض الرسالات السماوية إلى البشر.
مسرحُ الحدث كان قصرَ الصنوبر في العاصمة الجزائرية، وأطفالُ الحجارة الذين ولدت بأيديهم الانتفاضة الأولى ضد الاحتلال الإسرائيلي عام 1987 كانوا الغائبين الأسطع حضوراً، وسط زحامٍ عَجَّ بمئات الفلسطينيين والعرب والأجانب القادمين من شتى أصقاع العالم، ليشهدوا إعلان استقلال فلسطين يوم الخامس عشر من نوفمبر/ تشرين الثاني عام 1988.
آنذاك، وما أن بدأ رئيس منظمة التحرير، ياسر عرفات، تلاوة نص وثيقة الاستقلال التي كتبها محمود درويش، حتى احتبست الأنفاس، وظلت المشاعر تتأجّج مع كل جملةٍ عن شعب "صاغ هويته الوطنية بالثبات الملحمي في الزمان والمكان"، وصولاً إلى انفجار سيلٍ من دموع الفرح في مآقي الحاضرين عند نُطْقِه عبارة "إن المجلس الوطني الفلسطيني يعلن، باسم الله وباسم الشعب الفلسطيني، قيام دولة فلسطين فوق أرضنا الفلسطينية، وعاصمتها القدس الشريف".
لكن الحمولة الوطنية العاطفية لم تكن هي كل ما ناءت به تلك الليلة الفلسطينية المشهودة، وثمّة في الذكرى ما يستحق أن يُروى عن غصة اعتراف المجلس الوطني بقراريّ مجلس الأمن الدولي 242 و338، في تعبيرٍ عن استعداد القادة الفلسطينيين للاكتفاء باسترداد أراضيهم المحتلة عام 1967، والقبول عملياً بسيادة إسرائيل على ما نسبته 78% من مساحة فلسطين التاريخية.
كان ياسر عرفات الذي استطاع وزير الدفاع الإسرائيلي، أرئيل شارون، إبعاده ومنظمة التحرير من لبنان إلى أقاصي المغرب العربي، نتيجة اجتياح بيروت عام 1982، يعتقد أن الانتفاضة التي رفعت شعار الحرية والاستقلال عام 1987 قد أعادته رقماً صعباً، ولا بد من استثمارها بالعمل على إقامة الدولة في الضفة الغربية وقطاع غزة، بينما كان الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، جورج حبش الذي تبنّى هذه الفكرة بعد طول تحفظ، يحذّر من التعجّل في قطف الثمار قبل أوانها، عبر تقديم تنازلاتٍ عن الثوابت الوطنية. وأذكر أنه وقف، عقب التصويت على الاعتراف بقراريّ مجلس الأمن 242 و338، ليقول ما معناه إنه سيعود، ومن صوّتوا معه، بالرفض، لينتقدوا أنفسهم، لو ثبتت لاحقاً صحة موقف المؤيدين، وإن على الغالبية التي صوتت بالتأييد أن تعود، في المقابل، لتتراجع عن موقفها، حين تكتشف أنها سارت على الطريق الخطأ.
ما من أحدٍ، تقول بقية الحكاية، تخلّى عن موقفه في ما تلا من سنوات وعقود؛ أوغل عرفات في وجهة البحث عن الدولة بأي ثمن، حتى ظنَّ، وهو يخطو فوق السجاد الأحمر، وعلى أنغام النشيد الوطني، بأنها صارت بين يديه أو تكاد. ويُرْوَى أنه كان يفاجئ جُلَساءه في غزة، بدعوتهم إلى الإنصات لهدير البحر، قائلاً بفرح طفولي: "اسمعوا.. ده بحرنا.. مش بحر تونس، ولا بحر بيروت"، ثم كان أن استيقظ متأخراً على كابوس الدبابات الإسرائيلية تحاصر مقره في رام الله، ليموت في مثل هذه الأيام من عام 2004 مسموماً. أما حبش فمات هو الآخر عام 2008، بعدما سجل سابقة التخلي عن موقعه القيادي طوعاً لنائبه أبو علي مصطفى الذي سرعان ما قتله الإسرائيليون أيضاً.
في ذكرى إعلان وثيقة استقلال فلسطين، لا غرابة في أن إسرائيل تواصل قتل الحالمين بانتزاع حقهم من براثنها، لكن العجيب الذي لم يخطر على بال قبل ثلاثين عاماً أن ينتقل هؤلاء إلى كابوس قتل أنفسهم في صراعٍ عبثيٍّ على سلطةٍ ليس فيها من حلم الدولة شيء.
*العربي الجديد
اقراء أيضاً
في البدء كان العسل