سألني صديق فرنسي: هل بقي للديمقراطية أمل في البلاد العربية، بعد المصير المأساوي الذي آلت إليه ثورات الربيع العربي؟ وإلى أي حد لا يزال ممكنا إقناع الشعوب العربية بأن الديمقراطية تشكل حلا لمشكلاتها بعد الكارثة التي حلت بها؟ وهل لا تزال هناك إمكانية بالفعل للحديث عن الديمقراطية مع التفكّك العميق الذي أصاب الهوية الوطنية، وانبعاث الانقسامات الطائفية والإثنية وتفاقم التناقضات الاجتماعية والهجرة القسرية والبطالة والفقر؟ أي باختصار، ماذا بقي للحلم الديمقراطي الذي حرّك جمهورا واسعا في المدن والأرياف العربية، بعد الرّدة القاسية التي قامت بها الأنظمة القائمة، والدعم الكبير الذي تلقته من حلفائها الغربيين والشرقيين على حد سواء؟
أجبت: بالعكس، لم تكن الديمقراطية أولويةً على أجندة سياسات الشعوب العربية في أي وقت، كما أصبحت بعد الكارثة التي قادت إليها، ولا تزال، سياسات السلطة الاستبدادية، والنظم القائمة على القهر والقتل والقضاء على أي حياة سياسية أو قانونية. ما حصل يشكل إدانةً لأساليب الحكم والإدارة المافيوية، وليس لأساليب الحكم الديمقراطي أو للحلم بالحرية. أما الديمقراطية فهي ليست مطلوبة لحل المشكلات العديدة والمعقدة التي تواجه المجتمعات، بما فيها المشكلات الجديدة التي أنتجتها حروب الردّة الراهنة، وإنما لأنها تقدّم الإطار التنظيمي السياسي الذي يتيح أكثر من غيره التوصل إلى حلولٍ لهذه المشكلات والتناقضات، من دون الاضطرار إلى تفجير ثورات وإشعال حروبٍ أهلية.
يقوم هذا الإطار أولا على مبدأ إلغاء احتكار السلطة والقرار من فردٍ أو عصبةٍ من الأفراد، وإحلال التداول والحوار وتبادل الرأي، بين الشعب عبر ممثليه والنخبة الحاكمة من جهة، وداخل مؤسسات النخبة الحاكمة نفسها، من خلال فصل السلطات وموازنتها واحدتها بالأخرى من جهة ثانية، محل اللجوء إلى العنف لحسمها، سواء أكان بالاعتقال والاغتيال أو بالاحتجاجات الدموية. فهو بذلك يحكم العقل في مقاربة المشكلات المطروحة، أو يتيح للعقل أن يلعب الدور الأول في حسم الخلافات بين وجهات النظر، بدل فرض الرأي أو القرار الواحد بالقوة والاحتيال.
ولأنه يقوم ثانيا على مبدأ المساءلة والمحاسبة الذي يجعل كل صاحب منصبٍ عموميٍّ أو وظيفة أو سلطةٍ يعي مسؤوليته أمام الشعب كله، وكل فرد فيه، ويدرك أنه سيحاسَب على نتائج سياسته. ويرسّخ من خلال هذه المساءلة مبدأ أن المواطنين جميعا أندادٌ وأسياد، حاكمين كانوا أم محكومين، لهم الحقوق ذاتها، وعليهم الواجبات نفسها، لا يوجد بينهم طبقة أسيادٍ ولا طائفة عبيد. ولأن الديمقراطية تعني ثالثا أن الجميع متساوون أمام القانون، لا أحد مستثنىً من الخضوع له، ولا أحد محسوبٌ على أحد أو وصي على الآخر، وفي حاجةٍ لحمايته. والامتثال للقانون يعني القبول بالحق والصّدع به، لا خوفا من عقابٍ أو ولاءٍ لشخص أو مراعاة لقرابة روحية أو عائلية. الرئيس رئيس بالوظيفة، وطالما كان يمارس مهنته، لكنه مواطن، كغيره، أمام القانون. والوظيفة التي يقوم بها ليست تاجا أو دليل تشريفٍ وتكريمٍ وتقديس، وإنما هي مهمةٌ محدّدةٌ والتزام تجاه المجموع.
للذين يقولون أيضا: ماذا جنينا من الدعوة إلى الحرية غير الدمار والموت، نقول: الديمقراطية لا تقتصر على الحريات، ولا تتطابق معها. الحريات الفردية شرط لوجود مواطنة متساوية. من دون الحرية، لا سيادة لفرد على نفسه، ولا حق له في المشاركة في تداول الرأي في ما يتعلق بشؤون وطنه، ولا مساواة، ولا بالتالي حكم القانون، ولكن حكم القيصر والفرعون، فلا سيادة للفرد على نفسه، ولا تحكّم بمصيره ومصير مجتمعه من دون الحرية. ولا تعني هذه السيادة تحول الفرد إلى مواطن مساوٍ في الموقع والمكانة لأي فردٍ آخر، وإنما، أكثر من ذلك، إلى موطن ضمير ومعرفة بالحق والواجب، وبمعنى المسؤولية.
ليست الديمقراطية عقيدة ولا فكرة ولا قيمة كالحرية أو السيادة الشخصية، لكنها نظام، أي نمط تنظيم للمجتمعات وقواعد لبناء علاقات متكافئة ومنتجة ومثرية بين الأفراد، قائمة على المساواة والتفاهم والتعاون والتضامن والتكافل. وكلها قيمٌ ضروريةٌ للتقدّم في حل المشكلات التي تواجه المجتمعات: التنمية الاقتصادية والاجتماعية التي من دونها لا تعيش جماعة، ولا يستمر الانسجام والتضامن لدى أي شعب، وبناء دولة قانونية تضمن العدالة والأمن والاستقرار والمساواة بين الناس، وتعزيز الهوية الوطنية في مواجهة الهويّات الفرعية، وتنمية الثقافة وتطوير البحث والتقنية والعلوم. وليس من قبيل المصادفة أن المجتمعات الأكثر تقدّما حضاريا هي المجتمعات الديمقراطية، الأكثر تقدّما في المدنية.
لا تحل الديمقراطية، بمجرّد تحقيق مبادئها، هذه المشكلات، لكنها تخلق البيئة السياسية والقانونية والفكرية التي تساعد أكثر على حلها، لأنها تشجع على تواصل النخب الحاكمة والمسؤولة مع الشعب، وهذا أهم عنصر فيها. وتعزّز حكم القانون ودور المؤسّسات، حيث تسود قواعد وأصول ثابتة بعيدة عن الشخصنة. وهي تكبح، بالتالي، جنوح الفرد غير الكفيّ، عندما يصل بالخطأ إلى السلطة، وتحد من قدرته على الإساءة إلى المجتمع والدولة. وبتوفيرها إطارا سياسيا وقانونيا لحل النزاعات وتناقض المصالح، والذي هو أمرٌ طبيعي في كل المجتمعات، بالوسائل السلمية، أي بالحوار والاحتكام للعقل، تجنّب النظم الديمقراطية المجتمعات النزاعات الداخلية والحروب الأهلية الكامنة أو المعلنة، التي تشكل البيئة الطاردة أي تراكم حضاري، اقتصادي أو علمي أو تقني أو ثقافي، والتي تعيد الشعوب إلى حالتها البدائية، أي إلى الاحتكام للعصبية والعنف الأهلي والدمار المتبادل.
وأعتقد أن وجود أو بالأحرى إعادة إحياء العصبيات الطائفية والأقوامية والمناطقية ناجم عن تغلب منطق النزاعات الداخلية على حياة المجتمعات، بسبب غياب التواصل والحوار والوسائل والآليات السلمية لحلها، أي بسبب غياب الديمقراطية، روحا وهيكلا، وأن الدخول في منطق الديمقراطية وثقافتها، أي بناء حياةٍ سياسيةٍ سليمةٍ وناجعة، يغير كليا من مضمون الانتماءات الأهلية المذهبية والأقوامية، ويحوّلها من انتماءاتٍ حاملةٍ مشاريع سلطوية متنازعة مع المشاريع المماثلة والمنافسة لها، إلى انتماءاتٍ ثقافيةٍ تعكس الحميمية الخاصة بالجماعات الأهلية وتضامناتها الداخلية.
بمعنى آخر، عندما يتوفر لدى الأفراد والجماعات الآليات السياسية الطبيعية التي تمكّنهم من حسم نزاعاتهم، من دون الحاجة إلى توظيف عقائدهم وأديانهم وثقافتهم، أي كل ما هو مقدّس لديهم، ويعبر عن هويتهم، في النزاع، يحتفظون بانتماءاتهم الخاصة لأنفسهم، وينزعون، بشكل أكبر، إلى احترام انتماءات غيرهم المشابهة. وبالعكس، عندما لا يجدون في الدولة القائمة الوسيلة لإنتاج مثل هذه الحلول على أسس مقبولة، أي قانونية، يلجأون إلى الاستثمار في عصبياتهم الأهلية لتقوية موقفهم وتحشيد رجالهم في مواجهة منافسيهم، لتحقيق منافع، يعتقدون أنها من حقهم أو انتزعت منهم عن غير حق.
والواقع أن الدولة أخفقت في بلداننا، لأنها بدل أن ترفد الجماعات الأهلية والعصبيات الخاصة بإطار قانوني وسياسي فعال، لحل تناقضات المصالح فيما بينها، حلت محلها أو لعبت دورها، فصارت الجماعة الأهلية الأقوى والأكثر تسلحا وقدرة على استخدام العنف وتدمير الخصم. وصارت الجماعات الأخرى في نظرها خصما لها، فلم تعد هناك لا مواطنة ولا حقوق ولا حريات ولا أفراد مواطنين، وإنما جماعات تتنازع على السيطرة وامتلاك كل شيء: السلطة
والثروة والجاه. تحوّلت الدولة السياسية إلى عصبيةٍ أهلية، عصبية نخبةٍ حاكمةٍ أو طائفة أو إثنية، أو إلى أداةٍ لخدمة عصبياتٍ أهليةٍ أخرى، في مواجهة المجتمع ككل. وأصبحت تتلاعب بتناقضاته ومصالحه المتباينة وعصبياته المختلفة لكسب مزيدٍ من القوة والنفوذ والمكاسب وضمان التمديد الدائم لسيطرتها وملكها والاستمرار في قهر العصبيات الأخرى. هكذا خلدت الحرب، وحل منطق العصبية الأهلية والعشيرة في الدولة، بما يعنيه من سيطرة العلاقات الشخصية والولاءات الأهلية والتضامنات المصلحية الخاصة، محل منطق القانون، الواحد والمساوي بين الجميع، وحل منهج القهر والاستتباع للأفراد والجماعات، محلّ الخضوع الطوعي للقانون الذي كان من المفترض أن يكون مرجعهم في سلوكهم، ومعيار أفعالهم، بمقدار ما وضعوه بتوافقهم وإرادتهم الحرة.
بعكس ما تشيعه أدبيات الثورة المضادة والردة الطائفية والإثنية، لم تحُلّ حرب الإبادة الجسدية والمعنوية والحضارية أيا من المشكلات التي ألهمت الثورة، وفجّرت تمرّد المجتمعات، لكنها فاقمتها وسوف تفاقمها أكثر، فقد دمرت هيكل الدولة التي كانت تتمترس خلفها وتحتمي بها، ولم يعد من الممكن إعادة بناء الدولة اليوم، من دون تفكيك السلطة العصبوية التي حكمتها، واستعادة الحد الأدنى من إرثها وتقاليدها ومؤسّساتها، ومنطق القانون والمواطنة والحريات الشخصية. ما سقط خلال المواجهة الدموية الماضية ليس نظام الديمقراطية ومثالها ومبدأها، وإنما حكم العصابة ونظام العصبية الأهلية التي استعمرت الدولة، وقوّضت مفهومها وقانونها وأجهزت عليها.
*العربي الجديد
اقراء أيضاً
حرب غزّة وخيارات العرب الاستراتيجية
نقاش المصير... كيف خسر المثقفون ذاتهم
لعنة الأسد