إخفاق منتخب قطر الوطني بتحقيق «أهداف» في مبارياته، لا يذكر أمام نجاحها بتحقيق أهداف عظيمة في كأس العالم. لا شك أن الدول الساعية لتنظيم البطولة العالمية لها أهدافا غير الفوز بها، فقيمة الكأس لا يتجاوز تكاليف تشييد ملعب واحد.
ولا يمكن أن تخسر الدولة المضيفة عشرات المليارات من الدولارات لتنظيم بطولة تعلم أنها لن تفز بها، بل إن تكاليف أحد الملاعب يفوق قيمة المبالغ التي تحصل عليها جميع الفرق المشاركة بما في ذلك قيمة جوائز البطل والوصيف وأصحاب المراكز الثالث والرابع. علماً أن هذا الملعب سيجري تفكيكه بعد البطولة. ما جدوى استضافة كأس العالم إذن، إذا لم يمكن تحقيق أهداف سياحية وثقافية واقتصادية؟
ما الأهداف التي حققتها قطر؟
على مدى عقود والدعاية الغربية لا تتوقف عن تنميط العربي والمسلم كشخص متطرف في بيئة متخلفة، لا يقبل الآخر ولا يرحب به، وفي أحسن الأحوال يظهرونه كمقيد غير قادر على الإبداع.
للمفكر الفرنسي باسكال بونيفاس كتاباً بعنوان: «المثقفون المزيفون.. النصر الإعلامي لخبراء الكذب»، يتناول فيه الافتراءات والمغالطات التي يقدمها مجموعة من المثقفين النخبويين في فرنسا للجمهور الغربي عن شخصية العربي/ المسلم، ويستغرب من مماهاة مثقفين عرب أو من أصول عربية مع هؤلاء الذين يرون كل «عربي/ مسلم» وإن حاول هذا العربي رفض الإطار الإسلامي أصلاً.
أن تستضيف بطولة بحجم كأس العالم، معناه أن جمهوراً مختلفاً من العالم سيأتي إليك ويكتشف الحقيقة، وفي زمن الإعلام البديل، قد يزول أثر الفوبيا التي روج لها الغرب عن المسلمين عامة والعرب بشكل خاص، ويعرف الجمهور الغربي تحديداً، ثقافةً غير تلك التي كرستها الدعاية في ذهنه.
مع اقتراب موعد بطولة كأس العالم نسخة قطر 2022، تضاعفت الدعاية في الإعلام الغربي على العرب عامة، وقطر خاصة: "إنهم يضطهدون حقوق الإنسان، إنهم ضد المثليين، إن البيئة العربية غير آمنة، التطرف، حقوق العمال، انزعوا البطولة عن قطر التي فازت بحق التنظيم قبل 12 سنة".
الغريب، تماهي بعض وسائل الإعلام العربية مع توجهات الدعاية الغربية وكأن هذه الدعاية تفرق بين الدول العربية المختلفة.
كانت قطر تؤمن أن ما تفعله على الأرض كفيل بالرد على كل تلك الافتراءات وتحقيق أهداف عظيمة باستراتيجية مدروسة تحطم من خلالها الصورة النمطية عن الخليج، والعرب، والمسلمين في ذهنية الجمهور الغربي.
من الافتتاح إلى الختام
يدرك المتابع لمواقع التواصل الاجتماعي، مواقف عديدة حصلت في بطولة كأس العالم في قطر، هذه المواقف كانت محاور اهتمام لوسائل الاعلام العالمية أو مثار تداول لرواد مواقع التواصل الاجتماعي، وعكست صورة جميلة عن العرب وقيمهم ومبادئهم، بعض هذه المواقف حصلت على هامش البطولة، وبعضها كان مدروساً من القطريين، مثل حفل الافتتاح، إليكم بعضها:
الافتتاح: كيف نرى العالم؟
آية واحدة من القرآن الكريم في حفل افتتاح كأس العالم بقطر، توضح الأساس الذي تقوم عليه العلاقات الإنسانية: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم....).
هذا هو المبدأ الذي من خلاله نتعاون مع العالم، وعلى العالم أن يتعرف علينا من خلاله، لا من خلال الدعاية التي يروجها الواهمون.
الإنسانية
مواقف إنسانية شتى حدثت في قطر على هامش المونديال، بعضها ظهرت للإعلام وأخرى لم تظهر، وكلها أظهرت الجانب الإنساني للعرب وقيمهم، بعضها نعتبرها عادية ولكنها بنظر الآخرين حاجة عظيمة.
وأبرز مثال على ذلك الموقف الذي أعلنه مدرب المنتخب البرازيلي "تيتي" عقب مباراة منتخبهم أمام صربيا في الجولة الأولى، إذ كانت عائلة المدرب عائدة من المباراة وهي تحمل طفلين متناومين، حفيدا المدرب، وعرض شخص عربي لم يعرفه أحد مساعدة المرأة بحمل طفل إلى المترو، صادف أن أحدهم قام بتصوير الموقف بهاتفه.
لم يعرف ذلك الشخص أنه يحمل حفيد مدرب المنتخب البرازيلي الذي ظهر في مؤتمر صحفي: «لقد حمل حفيدي وسار معهم لوقت طويل، لا أعلم المدة لكنه كان يضعه على كتفه طوال الوقت، أريد أن أتعرف إلى هذا الشاب، لأن ما فعله يظهر حس التضامن الذي نتعلمه من كرة القدم».
الضيافة والكرم
قناة ارجنتينية، تجري مقابلة مع أحد المشجعين الذين يستعدون لمغادرة قطر، الحقائب أمامه، وهو سيغادر لأن أمواله نفدت، يمر شخص من جنسية عربية "معروف في السوشيال ميديا" يتكلم بلغة المقابلة، يقرر منع المشجع من الرحيل واستضافته في منزله. كانت المقابلة مؤثرة، شهدها الجمهور الارجنتيني.
كما يقيم القطريون مآدب ضيافة لعدد من المشجعين، أو يقومون بتوزيع التمور والقهوة لهم، يتعجب القادمون مما يقوم به العرب، ففي بلدانهم لا شيء مجاناً.
فلسطين وإسرائيل
ظهرت فلسطين في المدرجات وخارج المدرجات، إنها قضية العرب. فلسطينيون مؤثرون في قطر يقومون بتعريف الجماهير بالقضية العادلة، مما يؤثر في الرأي العام لصالح فلسطين التي يحضر علمها في كل مباراة من مباريات كأس العالم.
في مقابل ذلك، أرسل الكيان الصهيوني، وفوده ومؤثريه وقنواته الإعلامية، لتغطية كأس العالم، مطمئنين إلى تطبيع علاقاتهم مع بعض الحكومات العربية، لكنهم تفاجئوا بالرفض العربي للصهاينة، ومنعهم من التصريح لهذه القنوات أو التعامل مع صحفيي الكيان حتى انتشر الرفض إلى جماهير غير عربية.
إذ انتشرت مقاطع الفيديو بكثرة، وتداولتها وسائل الإعلام العالمية وأعلن الصحفيين عن إحباطهم ويأسهم من توصل الصهاينة مع أي علاقات مع الجمهور العربي.
الأمن والفطرة
شخصان من المكسيك تقريباً، يطرقان باب شقة بالخطأ، يبقيان عند الباب لمدة، يستغربان من مستوى الأمان عند العرب، كيف أن أحداً لم يبلغ بهم، ويتحدثان كيف لو أن الموقف حدث في بلدهما، كيف سيتم التعامل مع الموقف وإبلاغ الشرطة للاشتباه بهم.
لم ترضخ قطر لكافة الضغوطات الداعمة لقضايا تتصادم مع الفطرة الإنسانية، فلم تسمح برفع شارة الشواذ/ المثلية، أو انتشار المشروبات الكحولية التي حصرتها في أماكن ضيقة، وكانت النتائج مبهرة: المشجعات يعجبن بمونديال آمن لم يتعرضن فيه للتحرش.
الثقافة
كان التنظيم مدروساً لتعريف العالم بالثقافة العربية والإسلامية، تجهيز المتاحف والبرامج والأنشطة في المناطق المختلفة، فكانت غرابة المشجعين من صوت الأذان الشجي، إلى الصلاة خمس مرات، إلى النظافة، إلى الموروث اللامادي أيضاً من أهازيج وأغنيات.
في منتصف ديسمبر الجاري، قالت صحيفة الغارديان البريطانية، إن ممارسة المغاربة لطقوس دينية أثناء مباريات كأس العالم "قطر 2022" وفخرهم بالإسلام "يجب أن يلهمنا جميعا".
وذكرت الصحيفة في تقرير مطول، أن "قبيل ركلات الترجيح في دور الستة عشر بين المغرب وإسبانيا، تلا اللاعبون المغاربة سورة الفاتحة، وبعد تأمينهم العبور إلى دور ربع النهائي، ركض الفريق نحو الجمهور وقاموا بالسجود".
وأشارت إلى أن المغاربة من خلال هذه الممارسات "لم يعلنوا للعالم فخرهم بكونهم مغاربة فقط، بل فخرهم بالإسلام أيضا، الذي ألهم احتفالات بنشوة النصر في جميع أنحاء العالم الإسلامي".
وأوضحت أن "رؤية اللاعبين المغاربة على تلفزيون عالمي وهم يطبقون تعاليم الله بتكريم أمهاتهن اللواتي كن يرتدين الحجاب، لم يكن جميلا ومؤثرا وراقيا فحسب، بل كان مهما ومبلورا لجوهر المنافسة الدولية".
واعتبرت الصحيفة، أن مونديال كرة القدم يعد فرصة "للتعرف على الثقافات المختلفة والاحتفال بالتنوع لجعل العالم مكانا أفضل".
الختام: هذا نحن
لا يختلف اثنان عن ذكاء اللقطة الختامية لأمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، عند إلباس الأرجنتيني ميسي "البشت العربي" ليرفع كأس البطولة وتصل الرسالة إلى العالم وتبقى في ذهنه للأبد: هذا نحن.
التفاصيل التي تحمل الأهداف العظيمة في قطر لا تنتهي، وتحقيقها بصورة مشرفة يؤكد حنكة الكابتن الذي حقق هذه الأهداف العالمية.