صباح كل يوم، يتوجب على الشاب "عبد تركي"، من سكان منطقة “ملبية” بمضاربة لحج) 150كم شمال مديرية الحوطة- مركز محافظة لحج الإداري)، أن يتواجد باكرا في وادي "حرحر" الشهير، للعمل في حفر واستخراج مادة "النيس"؛ لبيعه بمبالغ زهيده جدا لا تكاد تغطي أبسط متطلبات الحياة.
يتخذ تركي (42 عاما)، مع الكثير من شباب منطقة "الصبيحة" بمحافظة لحج (جنوبي اليمن)، من وديان "النيس" و"الكرّي" المنتشرة في منطقتهم، مصدرا وحيدا للإنفاق على أسرته التي تعيش ظروفا معيشية مزرية في ظل تفشي الفقر مع قلة فرص العمل في المنطقة شبه النائية، حيث يعاني معظم أبنائها من البطالة..
وتشير الإحصائيات إلى أن ثلاثة ملايين يمني فقدوا وظائفهم خلال السنوات السبع الأولى من الحرب التي أودت بمعظم اقتصاد البلاد، وما زالت مستمرة حتى الآن. وأكدت تقارير الأمم المتحدة أن الحرب أفقدت أكثر من 40 % من الأسر اليمنية مصادر دخلها الرئيسية، مع نهاية العام 2021،.
عملية شاقة بمردود زهيد
مع أن العمل في تجميع وتنقية وبيع "النيس" المتوفر بكثرة في وديان وسهوب المنطقة، يتيح لبعض الشباب هنا الحصول على فرص عمل لمواجهة سبل العيش الصعبة؛ إلا أن هذا العمل بطبيعته يتطلب معامل خاصة بأجهزة مناسبة للحصول على كميات تجارية كبيرة. أما على المستوى الفردي- كما هو حاصل حاليا مع الكثيرين- فهو عمل شاق جدا ومضني، يتطلب الكثير من القوة والمثابرة والصبر.. كما يقول الشاب تركي، الذي تحدث لـ "يمن شباب نت" عن طبيعة هذه المهنة المجهدة، والمعاناة التي يتكبدونها في سبيل الحصول على بعض الأموال البسيطة لإعالة أسرهم الفقيرة..
فمهنة جمع النيس، بالنسبة للأفراد "تستهلك الكثير من الجهد والوقت، فيما المردود المالي الذي نتحصل عليه ليس بالمربح" وفقا لتركي، الذي يتوجب عليه الوصول إلى الوادي تمام الساعة السابعة صباحا للبدء في عملية الحفر، والتي تتطلب عملا يدويا شاقا لاستخراج وجمع "النيس" قبل أن يقوم بتنقيته من الحصى، ثم تجميع المنقى منه ليكون جاهزا للبيع، وغالبا ما ينتهي يوم عمله قبل مغيب الشمس بقليل..
وبحسب الشاب ذو البنية القوية، فإن تجميع حمولة سيارة (نوع دينا صغيرة) من "النيس" لا تتم في يوم واحد ولا يومين؛ "بل تستغرق أسبوعا كاملا في الغالب، وأحيانا أكثر من ذلك"، والسبب في ذلك كما يقول "كوننا نستخدم أدوات بدائية في الحفر والتجميع والتنقية، خصوصا وأن النيس غالبا ما يكون مختلطا بالكثير من الشوائب والمواد غير المرغوبة، وتنقيته تتطلب جهدا كبيرا وعملا مضنيا..".
وبشكل عام، يؤكد أن العمل في هذه المهنة الشاقة يعتمد على الجهود الفردية للأشخاص العاملين، وقدراتهم وجَلَدَهم وصبرهم، مستدركا: "أي بحسب جهد كل شاب.. ووفقا للظروف والقدرات".
ومع ذلك، فالنتيجة المتحصلة لا تكافئ الجهد المبذول. فوفقا لتركي، تتراوح أسعار الحمولة الواحدة بين 7,000 – 10,000 ريال يمني في الأسبوع (ما يعادل: 6.3 – 9 دولار/ عند سعر صرف 1,100 ريال للدولار الواحد).
وبالطبع؛ فإن مثل هذا المبلغ البسيط، الذي يتحصل عليه تركي- ونظرائه- أسبوعيا من وراء هذه المهنة المرهقة "لا يفي ولو بأدنى" متطلبات وأسرته، ومع ذلك فهو "مضطر للعمل في هذه المهنة برغم مردودها الشحيح هذا" كما يؤكد تركي لـ "يمن شباب نت"، وذلك لتغطية الفراغ في محاولة كسب بعض المال لتوفير ولو جزء بسيط من احتياجاته وأسرته، في ظل البطالة وشحة فرص العمل.
ميزة كبيرة.. ولكن
ما يخفف من معاناة العاملين بمهنة تجميع "النيس" و"الكري" في منطقة الصبيحة، هو: عدم وجود مضايقات أو منع من ملاك الأراضي (المساحات التي تتوفر فيها هذه المواد بكثافة). حيث يتاح للشباب الانتشار في الوديان للحصول على مصدر للرزق والعيش عن طريق الحفر والتجميع والبيع، بحسب ما أفاد به "ياسر الدهيل"، وهو أحد الشباب العاملين في هذه المهنة.
ويقول الدهيل لـ "يمن شباب نت"، إن عدم وجود مضايقات من أصحاب الأراضي، ووجود حرية في العمل دون مخاوف "شجع على انتشار وتوسع تجارة جمع وبيع النيس والكري في المنطقة، كما ساهم وساعد الكثير من الشباب العاطلين، الباحثين عن فرص العمل، من الالتحاق بهذه المهنة للحصول على لقمة العيش".
وبرغم أهمية هذه الميزة أو الإيجابية، كما يلفت "الدهيل" نفسه؛" إلا أن طبيعة هذه المهنة الشاقة جدا، ما زالت تشكل أحد أبرز الصعوبات التي تواجه العاملين، مستدركا: "خصوصا عندما نقارن المردود البسيط الذي يتحصلون عليه، لقاء كل ذلك المجهود الشاق المبذول، والذي يستمر أياما وسط الرياح والشمس.. وفي نهاية المطاف تكون الحصيلة ضعيفة، قد لا يستفيد منها العامل، ولا تغطي له مصروف يومه في ظل موجة الغلاء الفاحش..".
ليس ذلك فحسب، بل زاد "الدهيل" أن أضاف سببا أخر للمعاناة والإحباط، وهو: أن عملية بيع "النيس" لا تتم بشكل يومي، أو حتى أسبوعي، بل تعتمد عملية البيع والشراء على حجم الطلب على النيس من قبل الزبائن.. الأمر الذي يضع العمل في مهب الريح، تحت رحمة الظروف؛ سواء الاقتصادية أم الطبيعية..
فمادة "النيس"، التي تستخدم كمادة رئيسية في البناء، تعتمد حركة الإقبال على بيعه وشراءه، كأي سلعة تجارية، على الحالة الاقتصادية للبلاد وقدرات المواطنين الشرائية، والتي تدنت كثيرا بسبب الحرب وتداعياتها، بما في ذلك حركة البناء والعمران التي شهدت تراجعا كبيرا خلال الفترة الأخيرة، كنتيجة طبيعية للتدهور الاقتصادي المتواصل، وما نجم عن ذلك من ارتفاع للأسعار وغلاء فاحش بسبب استمرار تدهور قيمة العملة المحلية.
وعليه، فالعاملين في مهنة "النيس"، لا يعانون فقط من البخس بالشراء بأسعار زهيدة، بل قد يتعرضون أحيانا لخسائر فادحة. إذ أنهم- كما يؤكد "الدهيل"- يقومون بجمع "النيس" في الوادي، ويتركونه معروضا للبيع هناك، بانتظار أن يأتي أحد الزبائن لشرائه، وقد يستغرق ذلك وقتا طويلا. وهذا الأمر- كما يقول- قد يعرض العمل للخطر، ويمنى العاملون بخسائر باهضة "لا سيما في مواسم الأمطار، حيث تقوم السيول بجرفها وإهدار العرق الذي تم بذله لأيام".
مفارقات وآمال وتحذيرات
ولا تخلوا هذه المهنة من بعض المفارقات العجيبة.. فعلى الرغم أن مواسم الأمطار قد تشكل خطرا داهما على تجمعات "النيس" الجاهزة والمعروضة للبيع في الوديان الفسيحة، كما أوضح لنا "الدهيل" قبل قليل؛ إلا أنها- في حقيقة الأمر- تعتبر هي أفضل المواسم من ناحية توافر "النيس" بكثرة في الوديان، حسب ما يؤكده لـ "يمن شباب نت" العامل "جابر سعيد شمسان"، أحد أبناء المنطقة الخبراء في هذا المجال..
فوفقا لـ "شمسان"- الذي تخرج من جامعة عدن بتخصص لغة إنجليزية- فإن أفضل أيام توافر "النيس" يكون في مواسم الأمطار. والسبب كما يوضح: "لأن السيول تقوم بجرف الطبقات العليا من الأتربة والأحجار والشوائب الثقيلة المختلطة بالنيس، الذي غالبا ما يكون مدفونا في طبقات سفلية، فتعمل تلك السيول على إظهاره وتوفيره بسهولة على سطح الأرض، الأمر الذي يساعد الشباب على تجميعه بيسر ودون مشقة، حيث يوفر عليهم ذلك الكثير من الجهد في الحفر والبحث والتجميع.
لكن شمسان، وكبقية زملائه، يعرب عن عدم رضاه عن تلك العلاقة المختلة بين حجم الجهد المبذول وبين مقدار المردود المتحصل منه. لذلك يتمنى أن "يتعاون الشباب في وضع سعر موحد للبيع، يتناسب مع طبيعة الجهد والمتغيرات التي خلقتها الحرب، بما في ذلك تزايد احتياجات ومتطلبات أسرهم". في الوقت الذي يأمل فيه أيضا "أن يقدر الزبائن تلك المتغيرات التي طرأت على الجميع في السنوات الأخيرة".
وخلفت الحرب المستمرة في البلاد منذ أكثر من سبع سنوات، كوارث اقتصادية وإنسانية كبيرة، جعلت الأمم المتحدة تصف اليمن كواحدة من أكبر المآسي الإنسانية في العالم.
وفي شهر مارس/ آذار الماضي، حذرت وكالات أممية، من أن اليمن "يوشك على السقوط في براثن أزمة جوع كارثية، حيث يصل عدد الأشخاص الذين يحتاجون حاليًا إلى مساعدات غذائية في البلاد إلى 17.4 مليون شخص، وتواجه نسبة متزايدة من السكان مستويات طارئة من الجوع".
ونبهت منظمة الأغذية والزراعة وبرنامج الأغذية العالمي واليونيسف، بعد إصدار تحليل جديد (منتصف مارس الماضي) للتصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي (IPC) عن اليمن، أن "الوضع الإنساني في البلاد يتوقع أن يتفاقم خلال الفترة من يونيو/حزيران إلى ديسمبر/كانون الأول 2022، حيث من المحتمل أن يصل عدد الأشخاص غير القادرين على تلبية الحد الأدنى من احتياجاتهم الغذائية في اليمن إلى رقم قياسي يبلغ 19 مليون شخص".