على جنبات الطريق، في منطقة "السمسرة"، (تبعد 50 كيلو متر جنوب محافظة تعز)، تستحوذ شجرة ضخمة، غريبة الشكل والأطوار والصفات، على أنظار ودهشة كل من يراها هناك إذ تتربع مساحة كبيرة من الأرض الواقعة بمحاذاة الخط الرابط بين محافظة تعز ومدينة "التربة" من الجهة الجنوبية..
تحمل "شجرة الغريب" من اسمها نصيب، ليس فقط كونها تعتبر كواحدة من أقدم الأشجار على مستوى اليمن والجزيرة العربية، بعمر يتجاوز الألفي عام، بحسب روايات متواترة، بل وأيضا لكونها تتفرد بصفات وخصائص غريبة دون غيرها في المحيط والمنطقة برمتها.
محمولة على ساق ضخم ثلاثي الشكل، بقطر يبلغ حوالي ثمانية أمتار؛ ومحيط يصل إلى حوالي 35 متراً؛ فيما يتجاوز ارتفاعها ما يزيد عن 16متراً؛ تزينها فروع جانبية باسقة عملاقة متداخلة تمتد في مختلف الاتجاهات؛ ولها أوراق تشبه أصابع كف الإنسان؛ وبخلاف بقية الأشجار تتدلى أغصانها من الأعلى إلى الأسفل لتشكل مظلة وارفة الظلال والاخضرار على مدار العام.
وعلى مدى قرون، نُسجت حول هذه التحفة الطبيعية النادرة، العديد من الأساطير الشعبية المتوارثة، ما جعلها مزارا للمعجبين بالتراث، ومقصدا سياحيا للزائرين، ومتنزها طبيعيا للناس والعائلات لقضاء أوقاتهم تحت ظلال شجرة ضخمة، ظلت- وما تزال- تقاوم كل عوامل التعرية الطبيعية، وأيدي الخراب البشري، عبر حقب تاريخية عديدة..
حكايات وأساطير
وبسبب شكل ونوعية وطبيعة وفرادة وتاريخ الشجرة الطويل جدا، وقوتها وصمودها كل هذه الفترة؛ نسجت العديد من الأساطير حول "شجرة الغريب"، بعضها وصل حد التقديس والشعوذة والتبرك بها..!!
ولتسليط الضوء على هذه الجزئية، التقينا بالباحث اليمني في الموروث الشعبي "مطهر الأصبحي"، الذي أوضح لـ"يمن شباب نت" أن "شجرة الغريب، كغيرها من الظواهر الغريبة الأزلية في ريف محافظة تعز، نسجت حولها العديد من الأساطير، التي ساهم الجهل في تحويلها الى معتقدات راسخة في أذهان العامة.."
ومن تلك الأساطير، بحسب الأصبحي: القول بإن الشجرة "من الأشجار المباركة، وأن زيارتها والتبرك بها يعالج الكثير من الأمراض، خصوصاً أمراض العقم لدى النساء تحديداً، وأنها تجلب الحظ للنساء العانسات للزواج، أو أنها تعالج أمراض العين..".
إلا أن ذلك- كما يقول "كان في عقود ماضية، كما يروي كبار السن، أما الآن فقد ساهم انتشار التعليم بشكل كبير في تصحيح تلك المفاهيم الخاطئة".
تحفة وحيدة.. حزينة.. ومهملة
عرفت "شجرة الغريب" طوال سنوات ظهورها وبقائها بكونها مزارا للمعجبين بالطبيعة الغنّاء والتراث الطبيعي المنظور، والناس العاديين المؤمنين بأساطيرها المروية الموروثة. غير أن الغريب أننا حين قمنا بزيارة هذه الشجرة الغريبة مؤخرا، منتصف شهر أكتوبر/ تشرين الأول، وجدناها وحيدة وحزينة ومهملة، باستثناء حارسها "عبد الله أحمد" (65 عاما)..
ومعه انتهزنا هذه الفرصة لتجاذب أطراف الحديث حول هذه الأسطورة.. بدء بأسباب تسميتها بهذا الاسم (شجرة الغريب)، وانتهاء بحالها المزري اليوم، بسبب الحرب المستمرة منذ سبع سنوات في البلاد، وعن محاولات العبث والتدمير الذي طالها من جيرانها، في ظل إهمال مخزي لها من قبل الجهات المعنية..!!
وعن أسباب هذه التسمية، يرجع عبد الله ذلك إلى "صفاتها الخاصة التي تختلف بها عن بقية الأشجار المعروفة". فهي- كما يقول لـ"يمن شباب نت": بالإضافة إلى عمرها الذي يصل إلى ألفين وعشرة أعوام، تعد شجرة غريبة في صفاتها من حيث عدم معرفة نوعيتها، وخلوها من الثمار والأزهار..
ويضيف: كما أنه ليس ثمة من يعرف كيف وجدت في هذا المكان منفردة، حيث لا توجد شبيهة لها في المنطقة؟! في الوقت الذي امتلكت فيه كل هذه القدرة العجيبة على الصمود والبقاء شامخة كل هذه القرون الطويلة.
التفسير العلمي للأسطورة
غير أن الأكاديمي اليمني في الزراعة والغابات "عبده بجاش الزعزعي"، قدم لـ"يمن شباب نت" بعض التفاصيل الهامة، التي قد تكون غير معروفة، أو لم يسمع بها الكثير عن "شجرة الغريب"..
وعن أصلها وفصلها، بداية، أوضح الزعزعي قائلا: "لا يوجد كائن حي ليس له أساس أو أصل، والأشجار بمختلف مسمياتها كالإنسان تماما، لها عائلات وأباء ولا يمكن أن تنبت بدون بذرة إلا بإرادة الله سبحانه وتعالى"، مستدركا: "وشجرة الغريب لن تشذ عن هذه القاعدة الوجودية".
وعليه، يضيف: فـ"شجرة الغريب" تعرف عامياً باسم "Adan Sonia Digitata"، وتنتمي لعائلة أشجار(التبلدي) المنتشرة في شرق أفريقيا، وهي أشجار تمتاز بالعمر الطويل ومقاومة الجفاف.
وأعتبر الزعزعي أن "عدم وجود أشجار أخرى من نوعية شجرة الغريب في اليمن، بالإضافة إلى عمرها الطويل، الذي تجاوز الألفين عام، هو الشيء الجدير بالدراسة والبحث من قبل المتخصصين في علم البيولوجيا للوصول الى تفسير علمي لهذه الشجرة الأسطورة".
أما من جهته هو، فيعتقد الأكاديمي المتخصص في الزراعة والغابات بـ"احتمالية انتقال بذرة شجرة الغريب من موطنها الأصلي في شرق افريقيا عن طريق الطيور المهاجرة، أو أي وسيلة عفوية أخرى"، وهو الأرجح في نظره.
تحت اسوار شجرة الغريب
على مدى قرون خلت، حظيت "شجرة الغريب" باهتمام كبير من شعراء وفنانين يمنيين وعرب. وتعد قصيدة "تحت أسوار شجرة الغريب" للشاعر العربي السوري الكبير "سليمان العيسى"، التي كتبها بعد زيارته لها بمعية زوجته، من أشهر القصائد التي خاطبت "شجرة الغريب" بلغة شاعرية مرهفة تفيض إطراءً ودهشة، ومديحاً للشجرة الأسطورة.
ووصف الشاعر العيسى تلك القصيدة بأنها من أجمل القصائد التي تضمنها ديوانه الشعري "ديوان اليمن".
يقول الشاعر في مطلع قصيدته:
ما أنتِ؟ حارسة للدهر أم خبرُ *** يعرى ويورق، لا يدري له عُمُر
ما أنتِ؟ سرُ من الماضي يطوف على *** شط الزمان.. بِجلبابيه يأتزر
تغازلين الضحى والليل صامتةً *** وحـول جـذعـك يعيـا ويـسقـط الـسفـر
ما أنتِ؟ ملحمة غبراءُ آونةً *** وتارةً.. يـتـفيّـَا ظلك الـقمـر
حتى يقول في نهايتها:
الشعر ملء دمي مازلت اسفحه *** زهراً وعطراً تساوى الصحو والمطر
توحَّدت في ظلالي كل عابرةٍ * من الرياح تآخى الصفو والكدر
أيادي العبث
وفي وقت سابق قرر أحد المستثمرين المولعين بالجمال الطبيعي، والمشدوهين بكل تلك الدهشة المثارة حول هذه المعجزة التاريخية، استثمار التاريخ الغابر للشجرة والأساطير التي نسجت حولها، من خلال تحويلها إلى متنزه طبيعي..
قام المستثمر بإضافة سور ومقصورات للاستراحة، مع ملاهي بسيطة للأطفال. إلا أن مشروعه الواعد هذا آل مؤخرا إلى الفشل. الأمر الذي أرجعه حارسها العجوز "عبد الله أحمد" إلى الحرب الدائرة في اليمن منذ سبع سنوات، والتي ساهمت في توقف حركة الزائرين لـ"شجرة الغريب" كلياً، بحسب ما أكده حارسها، الذي لا يتقاضى معاشا من الحكومة لقاء هذه المهمة الوطنية الصعبة..
ودون ذلك، ها هي "شجرة الغريب" لم تسلم من أيادي العابثين خلال السنوات القليلة الماضية، بما في ذلك محاولة البسط على الأرض الخاصة بها، أو الاعتداء عليها بالحفر على ساقها بالفؤوس أو تقطيع أغصانها وتحويلها إلى "حطب" يوقد عليها في المنازل..!!
الأمر الذي دفع عقال ووجهاء ومثقفي منطقة السمسرة من رفع مناشدة عاجلة لمدير عام مديرية الشمايتين عبد العزيز ردمان الشيباني لحماية "شجرة الغريب" كمعلم تاريخي وسياحي، ووقف محاولات العبث المتكررة بها، والذي بدورة وجه مذكرة بتاريخ 8/3/2021 لمدير قسم شرطة الصافية المقدم "راني رشيد" لضبط المعتدين على حرم الشجرة، وإحالتهم للجهات المختصة.
على مدى أكثر من ألفين عام، صمدت "شجرة الغريب" في وجه الحروب والفوضى وقوى الطبيعة، مانحة المنطقة إرثا غنيا من التاريخ والجمال والحب والظلال الوارفة؛ ها هي اليوم تبدو وحيدة وحزينة، يطالها العبث البشري.. فهل تقوم الجهات المعنية بواجبها بكل حزم وقوة، ودون إهمال أو تراخ، في سبيل الحفاظ على هذا المعلم التاريخي، كثروة وطنية مهددة بالإندثار..؟!!