في تعز، ثمة مقولة شبه شائعة، مفادها: "من لم تقتله حمى الحرب، قتلته حمى الضنك"؛ المرض الذي التصق اسمه بهذه المحافظة المحاصرة أكثر من غيرها. حيث تغيب الدولة والمنظمات الإنسانية، هنا، تاركة له حرية حصد أرواح العديد من ضحاياه دون رحمة..!!
ما أن شعرت "إيمان المذحجي" بحُمى فضيعة، حتى انتابها الذُعر، خشية أن تكون قد أصابتها "حمى الضنك"، المرض الذي اجتاح المحافظة، وسرعان ما انتشرت معه قصص حزينة عن وفاة عدد من ضحاياه، بعضهم في حارتها.
لم تنتظر "إيمان" كثيرا، لتتوجه إلى أحد المستشفيات الخاصة بالمدينة، لعمل الفحوصات اللازمة. وهناك هالها المنظر المأساوي الفضيع: وجدت أمامها طوابير من المصابين بهذا الفيروس اللعين، أو المشتبه إصابتهم به.
"الانتظار لوقت طويل كان منهكا"، قالت إيمان لمراسلة "يمن شباب نت"، التي كانت في مهمة صحفية لتغطية هذه الجائحة. وأضافت: "لكني والحمد لله هدأ بالي حين وجدت نفسي أفضل حالا من آخرين تدهور وضعهم الصحي وأدى إلى وفاتهم، كما حدث مع جارتنا "راما السقاف"، التي فارقت الحياة قبل أيام".
"راما السقاف"، مسكينة تلك الشابة، فقد أصبحت حديث مأساوي مخيف بين أبناء حيها، (الضبوعة)، بعد أن أصيبت الشهر الماضي بمرض حمى الضنك، فأسعفت إلى أحد المستشفيات، لكن حالتها كانت قد تدهورت بشكل سريع، لتلقى حتفها، هكذا بكل سهولة..!
يُعّرِف الأطباء حمى الضنك بأنه مرض فيروسي ينتشر عن طريق لدغات أنثى البعوض، ومعدل الوفيات هو 1? فقط. إلا أنه عادة ما يكون الموت بسبب تحول حمى الضنك إلى حمى نزيفية حادة، حيث يمكن أن يكون قاتلاً في 20 إلى 40? من المرضى، إذا لم يتلقوا العلاج اللازم (الرعاية الطبية الضرورية والعاجلة).
"تعز".. خصوصية الانتشار
في مثل هذا التوقيت من كل عام، مع قدوم موسم هطول الأمطار، وتكدس المياه وركودها في معظم الأماكن وبقائها لفترات طويلة، تعاود حمى الضنك انتشارها مجددا على نطاق واسع في محافظة تعز، التي يضاعف من مأساتها؛ ضعف الخدمات الصحية اللازمة التي من شأنها أن تساهم في تخفيف أعراض المرض وانتشاره ومنع تحوله إلى وباء. الأمر الذي ما زال بدوره يرفع من حالة الهلع بين السكان.
وهذا العام، وفي غضون الشهرين الأخيرين على الأقل، بلغت عدد حالات الإصابة بحمى الضنك بتعز 1231 حالة، بينها 12 حالة وفاة، وفقا لأخر إحصائية صدرت نهاية الأسبوع الماضي عن إدارة الرصد الوبائي بمكتب الصحة العامة والسكان بالمحافظة. وهو رقم يعد كبيرا، مقارنة بالأعوام السابقة، مع توقعات بارتفاع عدد الضحايا نتيجة عدم وجود معالجات كافية.
وبحسب الطبيبة أسمهان علي محمد، العاملة بالمختبر المركزي بمستشفى الثورة العام، فمن أصل مائة حالة يستقبلها المستشفى في اليوم (كمتوسط حسابي)، هناك 35 حالة تعاني من نقص واضح في الصفائح الدموية، وتشخص بشكل أولي على أنها "حمى ضنك".
وأضافت لـ"يمن شباب نت"، أن فحص الدم العام بالمستشفيات الحكومية بـ500 ريال، أما فحص الضنك فهو غير متوفر غالبا، وإن توفر فإنه يكون بـ1500 ريال. أما في المستشفيات الخاصة فسعره يصل إلى 4000 ريال (6.5 دولار، وفقا لسعر الصرف الحالي: 600 ريال/ دولار).
وهي تعتقد، مع كثير من الأطباء، أن الوضع الاقتصادي المتدهور- بفعل الحرب والحصار- ساعد على مفاقمة انتشار المرض، مع لجوء كثير من المصابين إلى اعتماد أساليب العلاج الشعبية المنتشرة، هربا من التكلفة العلاجية الباهضة.
أوضاع اقتصادية سيئة
وأدى استمرار الحرب في اليمن إلى تدهور الأوضاع الاقتصادية بشكل كبير. وارتفعت نسبة الفقر إلى أكثر من 85%، فضلا عن حاجة أكثر من 82% من المواطنين لمساعدات إنسانية. بحسب أحدث إحصائيات عن منظمات تابعة للأمم المتحدة.
ونتيجة لذلك ازداد وضع المصابين بحمى الضنك سوءا. فمعظمهم غير قادر على شراء المحاليل الوريدية، أو القيام بفحوصات مخبرية متتالية لمتابعة حالاتهم.
الشاب "ماجد محمد أحمد"، أصيب قبل نحو أسبوع بمرض حمى الضنك؛ أكد لـ"يمن شباب نت"، أنه بعد إصابته بالمرض للعام الثاني على التوالي، قام بفحوصات مخبرية ولم يكررها لعدم قدرته على ذلك. كما أنه لم يقم بالمتابعة مع طبيب مختص.
وأضاف: اشترى لي والدي بعض الأدوية، بعد صعوبة بالغة في الحصول عليها بسبب كثرة الطلب عليها نتيجة زيادة حالات الإصابة بالمرض.
وحاليا، يستخدم ماجد المهدئات المسموح بها، كما يقوم بشرب سوائل كثيرة، وأكل الحمضيات كالبرتقال، دون تكرار زيارته للمستشفى لمتابعة الحالة. وهو ما يقوم به الكثير من المواطنين الذين يصعب عليهم تحمل تكاليف دخول المستشفيات.
لا توجد استراتيجية
وأتهم الدكتور في قسم الباطنية بمستشفى الثورة "أحمد الدميني"، الجهات المعنية بالتقصير في هذا الجانب. وكشف لـ"يمن شباب نت" أن "هناك مشكلة حقيقية تواجه القطاع الصحي في مواجهة وباء الضنك، وعدم وجود استراتيجية وقائية علاجية شاملة لاحتوائه، ما أدى إلى تزايد الحالات وارتفاع عدد الوفيات".
وذكر أن مستشفى الثورة كان خلال الفترة الماضية يعد قبلة مرضى حمى الضنك. حيث كانت الخدمات موفرة، إلى أن تغير كل ذلك منذ أشهر، فأصبح هناك إهمال وتقصير كبيرين فيما يتعلق بأمراض الباطنية، وتم توجيه الاهتمام للمجال الجراحي، برغم إمكانية تقديم الخدمات لمرضى الضنك والحميات.
ولا يزال مركز الحميات بمستشفى الثورة مغلقا حتى اليوم، برغم توجيهات المحافظ بإعادة افتتاحه والتنسيق مع المنظمات لتوفير كل ما يلزم. ولكن لم يحدث أي تجاوب من إدارة المستشفى، التي اكتفت بفتح قسم الطوارئ، وتحويل الحالات الحرجة إلى مستشفيات أخرى، وفق الطبيب الدميني.
وكشف الدميني، أيضا، أنهم قدموا خطة شاملة لفتح مركز الحميات بمستشفى الثورة إلى مدير مكتب الصحة بالمحافظة، لاستقبال مئات الحالات بشكل يومي ومجانا، وتقديم الخدمات العلاجية والوقائية بشكل نوعي. إلا أن ذلك لم يحدث حتى اليوم..!
وتوقع الدميني أن يزداد الوباء في تعز، لا سيما مع وصول نازحين من الحديدة، التي تشهد معارك عنيفة منذ أسابيع، مشددا على ضرورة وضع حلول لهذا المرض كون التقصير في الناحية العلاجية كبير.
وذلك، أيضا، ما ذهب إليه أطباء آخرون، تحدثوا مع مراسلة "يمن شباب نت"، حول أبرز أسباب انتشار المرض. وأشار بعضهم إلى أن استمرار انتشار القمامة وتكدسها داخل المدينة، إضافة إلى انفجار أنابيب الصرف الصحي واستمرار جريانها في الشوارع، هي أمور فاقمت من سوء الحالة أيضا، منتقدين عدم قيام مكتب الصحة بتعز بدوره، إضافة إلى عدم قيام الجهات المختصة بتوعية المواطنين للتخفيف من نسبة الإصابة بالمرض.
جهود متواضعة.. وغياب أممي
لكن مكتب الصحة العامة والسكان بالمحافظة، يقول إنه دشن مؤخرا، بالشراكة مع المجلس النرويجي للاجئين، حملات رش ضبابي بتعز في مديريات المدينة الثلاث (المظفر والقاهرة وصالة)، إلى جانب حملة أخرى مرافقة لتوزيع الأدوية، كما تم إعادة تأهيل وافتتاح قسم الباطنية بالمستشفى الجمهوري لاستقبال الحالات المصابة بحمى الضنك.
وتساعد عمليات الرش الضبابي تلك، على إزالة بؤر توالد البعوض، وبالتالي التقليل من نسبة الإصابة بحمى الضنك. إلا أن المواطنين بتعز، ما زالوا يشكون من تقصير الجهات المعنية، لعدم قيامها، ولو بنسبة بسيطة مما يتوجب عليها القيام به في مثل هذه الأمراض القاتلة. وحتى حملات الرش الضبابي، الحسنة الوحيدة لها، لم تكن بشكل منتظم.
ويؤكد المواطن مهيوب الشرعبي لـ"يمن شباب نت" أنه لم يلاحظ فرق الرش الضبابي تصل إلى منطقة سكنه، جوار جولة سنان، إلا لمرة واحدة فقط. وعليه؛ فقد ناشد السلطة المحلية بضرورة الانتظام في عمليات الرش، إلى جانب عمل حلول لأماكن تصريف مياه الأمطار التي تتكدس فيها القمامة، وتمر عبرها مياه الصرف الصحي، والتي باتت مكانا مثاليا لتجمع البعوض.
ودون ذلك، أثار مسئولون وأطباء سؤالا هاما بشأن غياب المنظمات الإنسانية والإغاثية الأممية والدولية عن تعز بشكل عام، وإهمالها، أو أسباب تجاهلها، هذا المرض، وعدم وقوفها مع أبناء هذه المحافظة للحد من انتشاره، وتركيزها فقط على أمراض أخرى، كالكوليرا والدفتيريا، المنتشرة أكثر في عدد من المحافظات الأخرى.
وللتأكد من ذلك، بحثنا في المواقع الإلكترونية الرئيسية لتلك المنظمات، فلم نجد في تقاريرها (الإنجليزية والعربية) ما يركز على مرض حمى الضنك بتعز، في الوقت الذي تصدر فيه تحديثات أسبوعية وشهرية ودورية بشأن مرضي الكوليرا والدفتيريا.