بعد مرور أكثر من نصف قرن على النظام الجمهوري في اليمن، الذي أرست دعائمه ثورة 26 سبتمبر/ أيلول عام 1962، لم يكن متوقعا لدى اليمنيين، أن يأتي يوم يُصادر فيه هذا النظام، أو يُسقط بطريقة دراماتيكية، ثم يُقدم ذلك للعامة بملامح ثورية وجمهورية، أما من لم ينطلِ عليهم هذا الخداع، فيدركون أن اليمن عاد، حقيقة، إلى قبضة الحكم السُّلالي، عبر أسرة بدر الدين الحوثي، بانقلاب 21 سبتمبر/ أيلول 2014، على الرئيس عبدربه منصور هادي، واستكمال ذلك بإعلان دستوري أصدر في 6 فبراير/ شباط 2015.
لا يزال البعض في حالة انخداع عجيب، وإصرار أحمق، على أن ما جرى في 21 سبتمبر/ أيلول 2014، ليس انقلابا حوثيا سُلاليا مسلحا، بل ثورة شعبية عادلة، وتَعمى عيون هؤلاء عن زحمة الوجوه السُّلالية، التي تستأثر بمفاصل الدولة، وقراراتها المصيرية، ومقدراتها المختلفة. ففي أعلى هرم سلطة الانقلاب يقف زعيم الحركة الحوثية، عبد الملك الحوثي، ومن حوله كتيبة من إخوته أصهاره وأنسابه، ثم تتشعب العصبويات السُّلالية طولا وعرضا، وصعودا وهبوطا حتى أصغر وحدة إدارية في الجهاز الحكومي.
ألم يُغرِق الحوثيون بانقلابهم، عام 2014، اليمن في أتون صراع دامٍ لا أمل في التعافي منه على المدى القريب؟ ألم يمزقوا ما تبقى من أواصر الوحدة الوطنية، التي عبثت بها الأنظمة السابقة؟ ألم ينالوا من وعي الأمة، وهويتها القومية، والدينية، والثقافية؟ ألم يستعْدوا الجوار العربي والإقليمي؟ ألم يُطمعوا في البلاد كل ذي مطمع؟ ألم يثيروا عليها ذوي المصالح المشروعة في محيطها البحري؟
لا حاجة للإجابة، فكل شيء واضح، لكن في مقابل ذلك، قد يبادر البعض إلى طرح هذا السؤال: من، أو ما الذي، أوصلنا هذا الموصل؟
الحقيقة أن ثورة 26 سبتمبر/ أيلول 1962، لم تُحصَّن تحصينا جيدا من وباء الإمامة، وأذنابها، الذين يتناسلون، تباعا، على شاكلة كل سلطة فاسدة؛ وذلك ما كشفته، بكل وضوح، أحداث السنوات الخمس الماضية، حين نزع الكثير أقنعتهم، وانزووا بعيدا عن يمنيتهم، في إطار عصبيتهم السُّلالية، أما من سواهم من الانتهازيين، فتبدّوا أكثر حوثية وإمامية من الحوثيين أنفسهم. وأما غياب تحصين الثورة، فقد جسّدها السماح المبكر بتسلل أعدائها، من الإماميين، إلى كل مفاصل السلطة، بموجب صلح عام 1970، وتنامي مشروعهم السُّلطوي أمام مختلف قوى النظام الجمهوري، مع ما شكّله انحراف بعض القوى السياسية عن نهج الثورة ومبادئها وقيمها.
فخلال الفترة بين: 1962-1990، لم تكن السلطات المتعاقبة على الحكم في الشمال، جادة في تحويل أهداف الثورة إلى واقع ملموس، ولا أدل على ذلك من الهدف الأول، خاصة الجزء المتمثل في "إقامة حكم جمهوري عادل، وإزالة الفوارق والامتيازات بين الطبقات". لذلك مثّلت أغلب الانقلابات العسكرية، التي تخللتها، نتيجة منطقية لغياب "الحكم الجمهوري العادل"، وكانت فترة حكم الرئيس علي عبد الله صالح (1978-2011)، أكثرها انحرافا عن النهج الجمهوري؛ حيث تلاعب بالدستور لضمان بقائه في السلطة، وأقصى الكثير من منافسيه عن المشاركة فيها، ومن ذلك شريكه في إعادة تحقيق الوحدة بين الشطرين، علي سالم البيض، ومنافسه في انتخابات عام 2006، فيصل بن شملان، ومحاولته تقديم نجله أحمد كوريث للحكم من بعده.
لم يكن الرئيس صالح، وحده، من سلك ذلك، وإن كان هو الأبرز، فقد سبقه إلى ذلك، ولكن في حدود ضيقة، رئيس المجلس الجمهوري، عبدالرحمن الإرياني (1967-1974)، والرئيس إبراهيم الحمدي (1974-1977)، رغم قِصَر فترة حكم كل منهما؛ حيث أسندت قيادة الجيش، والأمن، والمخابرات، إلى رجال من دوائر القرابة الأسرية، والمناطقية، والنفوذ والمصالح المحيطة بهما، وتحولت هذه القوى إلى أدوات حماية شخصية، وليس أدوات حماية للنظام الجمهوري ومكتسباته، علاوة على ما مثّله ذلك من نكوص عن الهدف الثاني للثورة، المتمثل في "بناء جيش وطني قوي، لحماية البلاد، وحراسة الثورة، ومكاسبها".
من هنا، أغرت مثل هذه الممارسات، مراكز القوى السُّلالية بالتشكل مجددا، فكان أن غدت الحركة الحوثية الذراع المسلح لهذه القوى، واختطت بها طريقها للسيطرة على السلطة، ابتداء بحروب صعدة الستة (2004-2010)، وصولا إلى انقلاب 21 سبتمبر/ أيلول 2014، في ظروف داخلية وخارجية شجعت، كثيرا، على ذلك، ووقوف أطراف محلية مختلفة في هذه المؤامرة، بناء على حسابات مغلوطة، ومنهم الرئيس صالح، الذي دفع حياته كجناية على هذه الحماقة، فيما لا تزال أطراف أخرى، وهي التي أفقدتها هذه المؤامرة سلطتها عام 2014، تدفع ذات الثمن، من خلال معركتها الغامضة النهاية ضد الانقلاب.
لا شك، ونحن نقف على هذه التحولات والانتكاسات، خاصة نكبة 21 سبتمبر/ أيلول 2014، وما تلاها من تداعيات مأساوية على البلاد، أننا سنواجَه باعتراضات أخرى، تُحمّل ثورة فبراير/ شباط 2011 جانبا من تلك التداعيات، بل لقد سمعنا، كثيرا، من يذهب إلى القول إنه لولا هذه الثورة، لما كان للحوثيين من سبيل للوصول إلى السلطة، ولما تمكنوا من إسقاط المعسكرات، واجتياح محافظات الشمال، ولما وصلت البلاد إلى ما هي عليه اليوم من خراب وتمزق!!
إن الحقيقة، التي لا ينبغي أن تغيب في سياق هذا الجدل، أن ثورة 11 فبراير/ شباط 2011، لم تكن سببا في ذلك، بقدر ما كانت نتيجة لنكوص نظام صالح عن أهداف ومبادئ ثورة 26 سبتمبر/ أيلول 1962، ولو أنه التزم بهذه المبادئ، وأرسى نموذجا ديموقراطيا لِتداول السلطة سلميا، وحقق عدالة اجتماعية رائدة، لما ثارت عليه الجماهير. فالأصل، أن الرئيس، وفقا للدستور، محدد المدة، والوظيفة، والسلطات، وهذه الجماهير لم تخرج إلا لتعنته وإصراره على مخالفة مبادئ الثورة، وتلاعبه بالدستور، فضلا عن تزايد مظاهر الفساد في كافة مؤسسات الدولة.
جنوبا، وبعد إعادة تحقيق الوحدة بين شطري البلاد، في 22 مايو/ آيار 1990، تضاءلت حظوظ السُّلاليين في العودة إلى الحكم، أمام الاتساع الجغرافي، والتنوع المذهبي والفكري، لكن باندلاع حرب صيف 1994، ونشوب حروب صعدة (2004-2010)، ثم تعنت الرئيس صالح أمام مطالب ثوار فبراير/ شباط 2011، تعززت آمال العودة أكثر، لا سيما بعد تقارب الحوثيين مع زعامات جنوبية مناوئة لسلطة صنعاء، لكن ما إن اجتاحت ميليشيا الحوثيين محافظات: الضالع، ولحج، وصولا إلى عدن، التي قصدها الرئيس هادي هاربا من صنعاء، في فبراير/ شباط 2015، تكشفت أكثر حقيقة تقارب كل طرف، وأن ذلك لم يكن ليتجاوز حدود المصالح المؤقتة.
فلقد تجاوز الجنوبيون، ولو مؤقتا، الغل السياسي، الذي اكتنف علاقاتهم، منتقلين إلى خطوط التقاء أكثر واقعية، وحدّها، في المقام الأول، تناقض المعتقد الديني (المذهبي) مع الحوثيين، يلي ذلك الدافع السياسي، ثم محركات أخرى يتحكم فيها قطبا التحالف، السعودية، والإمارات؛ وذلك ما تفصح عنه جبهات قتال الساحل الغربي للبلاد، التي يمثل المقاتلون الجنوبيون فيها أكثر 80%، فضلا عن وجودهم الغزير في جبهات أخرى، واشتداد صراخ الحوثيين من التدافع الجنوبي شمالا؛ لا دارك أن عدو المعتقد أشد بأسا من عدو المصلحة، مع ما شكله اجتياح محافظات الجنوب من ثأرية لدى الجنوبيين، لا يسقطها سوى القضاء بالمثل.
أمام هذه الأحداث، وتدافعها، وإفرازاتها، وما يمكن أن يشكله خطر الهيمنة الحوثية على مستقبل اليمن، وتمدد ذلك في المنطقة، يبدو أن مختلف القوى الرافضة للانقلاب، لم يعد أمامها من خيار سوى القضاء على الانقلاب، أولا، ومحو آثاره ثانيا، والانطلاق نحو بناء الدولة الاتحادية، وفقا لنتائج الحوار الوطني المتفق عليها مطلع عام 2014، وتأسيسا على مبادئ ثورتي سبتمبر/ أيلول 1962، وأكتوبر/ تشرين الأول 1963، الرافضة لكل أشكال التمييز والهيمنة على الحكم.
وعلى الحوثيين تفهّم مدى الرفض الشعبي والإقليمي لمشروعهم الطائفي، وأن إيران لن تجد ما يشجعها على الاستمرار في دعمهم، مثلما وجدت ذلك في العراق ولبنان وسورية؛ ذلك أن لليمن وضعه الخاص، إقليميا ودوليا، فليس أمامهم، إذن، سوى الانصياع للسلام؛ لأن فرص اليوم أثمن من فرص الغد، بل ربما لن تتكرر.
*كاتب يمني، ومحلل سياسي في الشئون الاستراتيجية والعسكرية