نشرت صحيفة الواشنطن بوست الامريكية، الثلاثاء، تقريرا موسعا للصحفية الاستقصائية سودارسان راغافان، حاولت فيه فك شفرة لغز الاغتيالات الغامضة التي تطال رجال الدين في عدن- جنوبي اليمن.
وتوصلت الصحفية، التي أجرت لقاءات ميدانية مع رجال دين وشهود عيان وقادة مجتمع ومسئولين يمنيين وباحثين غربيين، إلى أن عمليات القتل (الاغتيالات) في عدن، يبدو أنها مرتبطة بصراع (خفي) على السلطة، يدور بين وكلاء الدولتين الحليفتين للولايات المتحدة الأمريكية، السعودية والإمارات، واللتين تقفان معاً في حملة عسكرية ضد المتمردين الحوثيين الذين أطاحوا بالحكومة اليمنية المعترف بها دولياً، إلا أن كلاهما لديها رؤيتها المختلفة لمستقبل اليمن.
وفي هذا السياق، كشفت الصحفية أن العديد من رجال الدين الذين تم اغتيالهم، ينتمون لحزب الإصلاح الإسلامي، الذي ينظر إليه السعوديون على أنه حليف مهم لإعادة بناء اليمن، بينما- على العكس- ينظر إليه الإماراتيون على أنه من المتطرفين الخطرين المرتبطين بالإخوان المسلمين الذين تعتبرهم بعض القوى الإقليمية متطرفون.
كما أشارت إلى أن بعض رجال الدين الذين تم اغتيالهم كانوا من المؤيدين لبقاء الوحدة اليمنية، في حين أن فصيلا قويا داخل الميليشيات الموالية للإمارات العربية المتحدة يؤيد الانفصال.
ونقلت الصحفية عن مسؤول أمريكي رفيع ترجيحاته بوقوف بعض عناصر المجلس الانتقالي الانفصالي وراء قتل رجال الدين. وأن حزب الإصلاح يواجه بالفعل ضغوطا شديدة في عدن وأماكن أخرى، سواء من الناحية السياسية أو الأمنية.
ومن أبرز النتائج التي توصل إليها التقرير، أن الاغتيالات في عدن كان لها أثر مروع على المساجد. فالبعض قد أغلقت أبوابها. وتوقف بعض رجال الدين عن إمامة المصلين، بينما غادر العشرات منهم المدينة خوفا من القتل.
هنا، تجدون ترجمة خاصة من "يمن شباب نت" لنص التقرير كاملا:
عدن (اليمن) - مرت سيارة تويوتا كورولا بيضاء بجانب صفوان الشرجبي وهو يسير بمحاذاة طريق مزدحم ذات مساء خلال هذا الربيع بعد أن اشترى الدواء لوالدته، وفقا لما ذكره شهود. بعدها خرج رجل من السيارة وأطلق ما لا يقل عن أربعة رصاصات صوب رجل الدين الملتحي الذي سرعان ما سقط على الأرض بينما كان ينزف من أسفل ظهره.
وأصبح الشرجبي آخر رجل دين مسلم يلقى حتفه، ضمن مسلسل طويل من جرائم القتل التي لم يتم حلها بعد. حيث شهد العامين الماضيين مقتل ما يصل إلى 27 من رجال الدين في عدن ومناطق مجاورة.
وقال محمد عبد الله (32 عاما)، وهو صاحب صيدلية شاهد السيارة وهي تفر هاربة بسرعة: "معظم الناس في الحي يعرفون صفوان ويستمعون الى خطبه"، مضيفا "كان شخصا مؤثرا. وهذا هو السبب وراء مقتله".
لكن معرفة من قتله لا يزال لغزا، على الرغم من التكهنات الشائعة. في حين لم تعلن أي جماعة مسؤوليتها عن أي من تلك الاغتيالات ولم يجري اعتقال أي من الجناة.
وقد ازدادت وتيرة الاعتداءات بشدة منذ أكتوبر/ تشرين الأول، مع مقتل 15 من رجال الدين من بينهم اثنين في الشهر الماضي، بحسب مسؤولين يمنيين وأعضاء في صفوف الاوساط المتدينة. وتعرض جميع الضحايا للهجوم في حوادث إطلاق نار من سيارات مسرعة أو بالقرب من مساجدهم. وقد فر عشرات من رجال الدين الآخرين من المدينة، بينما حدد آخرون ساعات عملهم حفاظا على حياتهم.
وفي هذه المدينة اليمنية الجنوبية الفوضوية، حيث بالكاد تؤدي الحكومة المحلية مهامها، يُحكِم المسلحون المتنافسون سيطرتهم على الشوارع، وقد ملأ رجال الدين فراغ القيادة. حيث وبوصفهم قادة اجتماعيين بارزين، فإنهم يتنافسون حاليا على السلطة مع الميليشيات الطموحة وتنظيمي القاعدة والدولة الإسلامية، وهو الامر الذي جعل من رجال الدين أهدافاً.
وقالت ليلى الشبيبي، وهي ناشطة يمنية في مجال حقوق الإنسان والديمقراطية: "مع كل عملية قتل، يتم إضعاف المجتمع". واضافت "كان رجال الدين قادة فعالين في مجتمعاتهم، وقاموا بحل الخلافات وقدموا النصيحة. لقد كانوا معلمين وممثلين لمجتمعاتهم".
وتبدو عمليات القتل مرتبطة بصراع على السلطة، يدور بين وكلاء دولتين حليفتين للولايات المتحدة الأمريكية، هما المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة. ومع أن هاتين الدولتين الخليجيتين تقفان معاً في حملة مسلحة ضد المتمردين الشماليين المعروفين بالحوثيين الذين أطاحوا بالحكومة اليمنية المعترف بها دولياً، إلا أن كلا من السعوديين والإماراتيين لديهم رؤى مختلفة لمستقبل اليمن.
وينتمي العديد من رجال الدين الذين تم اغتيالهم، بما في ذلك الشرجي، لحزب سياسي إسلامي ذي نفوذ، معروف باسم الإصلاح. وينظر إليه السعوديون على أنه حليف مهم لإعادة بناء اليمن، بعكس الإماراتيون الذين ينظرون إلى الإصلاح على أنه من المتطرفين الخطرين المرتبطين بالإخوان المسلمين الذين تعتبرهم بعض القوى الإقليمية متطرفون.
كما كان بعض رجال الدين الذين تم اغتيالهم يدعون إلى إبقاء اليمن موحدا، في حين أن فصيلا قويا داخل الميليشيات الموالية للإمارات العربية المتحدة يؤيد الانفصال.
وقال بيتر ساليزبري، المحلل في الشأن اليمني لدى مجموعة الأزمات الدولية: "هذه حملة ممنهجة ومدروسة بعناية". وأضاف "الأشخاص المستهدفون لا ينتمون الى التيار الرئيسي الجديد في الجنوب، وهو التيار المؤيد للانفصال".
القتل السياسي يزداد تسارعا
لعقود من الزمن، تعود إلى الفترة التي كانت فيها عدن مستعمرة بريطانية، شكلت الاغتيالات وسيلة لكسب النفوذ في جنوب اليمن.
في عدن، تلك المدينة المترامية الأطراف حيث انهار نظام إنفاذ القانون والنظام القضائي، بلغت عمليات القتل السياسي مستوى من الإفراط، حيث قام كل من تنظيم القاعدة والدولة الإسلامية بتنفيذ العديد من التفجيرات الانتحارية التي استهدفت مسؤولين حكوميين وجنودا ومدنيين. وهناك يتجول الرجال والبنين الذين يمسكون بالبنادق وهم يستقلون اطقما عسكرية ولا يعرف ولاءهم.
عمليات الاغتيال منتشرة، إلى درجة أن جماعات حقوق الإنسان تعقد مؤتمرات حول كيفية التعامل مع التهديدات، وبالإمكان ملاحظة الملصقات واللوحات الإعلانية التي تخلد ذكرى الضحايا حيث تنتشر في ارجاء المدينة.
في الجنوب، تبدوا الحكومة خاضعة صوريا لقيادة الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي، لكن الشوارع يحكمها مزيج من الميليشيات المؤيدة للانفصال، تسمى بالمجلس الانتقالي الجنوبي الذي تعتبر الإمارات العربية المتحدة داعمه الرئيس. ولطالما اشتبه الانفصاليون بحكومة هادي المؤيدة للوحدة واتهموها بالفساد وقمع الجنوب. اضافة الى انهم يزعمون أن حزب الإصلاح الذي يؤيد أيضاً اليمن الموحد، لديه نفوذ على هادي ويسيطر على حكومته.
وفي يناير الماضي حاولت قوات المجلس الانتقالي الجنوبي الاستيلاء على القصر الرئاسي الذي يضم حكومة هادي، مما اضطر المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة لإرسال مبعوثين للتوسط في وقف إطلاق النار.
وقال مسؤول أمريكي رفيع إن من المحتمل أن يقف بعض عناصر المجلس الانتقالي الانفصالي وراء قتل رجال الدين. واضاف المسؤول، الذي طلب عدم نشر اسمه ليتحدث بحرية: "الإصلاح يواجه بالفعل ضغوطا شديدة في عدن وأماكن أخرى، سواء من الناحية السياسية أو الأمنية".
لكن العميد شلال علي شايع، مدير أمن عدن والقيادي البارز في المجلس الانتقالي الانفصالي، نفى المزاعم التي تقول إن قواته تقف وراء عمليات القتل. وألقى باللائمة على المتطرفين الإسلاميين.
وقال مسؤولون انفصاليون إن حزب الإصلاح مسؤول عن اغتيال رجال الدين، مبررين ذلك بزعم أن الإصلاح يقتل رجال الدين المعتدلين لاستبدالهم بمن هم أكثر تطرفا.
"أعظم الشهداء"
في حفل تأبيني أقيم يوم 12 مايو، أي بعد يومين من اغتيال الشرجبي، وصفه الأقارب والأصدقاء بأنه ودود ومحبوب، وهو واعظ ليس لديه أعداء واضحين. وفي إحدى اللافتات التذكارية، يظهر الشرجبي مرتديا معطفا ناعما وقميصا ورديا ونظارات شمسية، حيث يبدوا وكأنه نجم سينمائي أكثر من رجل دين.
وكغيره من رجال الدين، لعب الشرجبي دورا هاما في المجتمع القبلي اليمني التقليدي، والقى محاضرات دينية عن القرآن والأخلاق، وتوسط في اتفاقات بين الجيران الغاضبين وحل خلافات تجارية وقدم المشورة للشباب المشوشين وعمل كوسيط للم شمل الأزواج والعائلات في إطار الزواج.
وقد انضم إلى رجال دين آخرين في حشد المقاومة ضد المتمردين الحوثيين، وجمع المال والغذاء للمقاتلين المناهضين للحوثي.
وفي مواعظه وعلى صفحته على فيسبوك، لم يمتنع الشرجبي من التعبير عن وجهات النظر ضد حكام عدن، بحسب زملائه وأصدقائه. كما حث الشباب على الابتعاد عن الميليشيات الموالية للانفصالية وندد بالتطرف. وفي بعض منشوراته الأخيرة على موقع فيسبوك، ادان السلطات التي "تسببت في معاناتنا". وقال "أعظم الشهداء هو الذي يقول كلمة حق في وجه سلطان جائر، وقتل من أجل ذلك".
وقال وائل فارع، وهو رجل دين آخر في حزب الإصلاح: "لطالما دعا صفوان الشرجبي إلى الوحدة، كما فعل جميع رجال الدين المعتدلين الآخرين الذين قُتلوا". واضاف "لم يكن الشرجبي يؤمن بأي شيء جيد سينجم عن الانفصال".
ولم يجرؤ أقرب المقربين من الشرجبي على مناقشة مقتله، لكن آخرين كانوا صريحين في إتهاماتهم.
حيث قال أشرف علي محمد، وهو صحفي محلي: "هذه الاغتيالات نفذت لخدمة بعض الأطراف من الخارج والداخل"، في إشارة إلى الإمارات والميليشيات الانفصالية. واضاف "هددت هذه الأطراف بطرد الإصلاح من المجتمع".
وقاطعه شقيق الشرجبي، عمرو، طالبا منه التوقف عن الكلام. وقال "لا نريد المزيد من المشاكل".
"علينا اتخاذ الاحتياطات"
وفي ارجاء عدن، كان للاغتيالات أثر مروع على المساجد. فالبعض قد أغلقت أبوابها. وتوقف بعض رجال الدين عن إمامة المصلين في صلاة الفجر، حين توفر الظلمة غطاء للقتلة. فيما يتناوب آخرون على مواعيد الصلاة اليومية لتجنب الأنماط المتوقعة. وأصبح الحراس الشخصيون ظاهرة شائعة حاليا.
وفي مسجد هائل سعيد، لا يوجد امام. بعد أن فر الخطيب علي أحمد محفوظ من عدن في وقت سابق من هذا العام بعد اغتيال اثنين من رجال الدين في مساجد قريبة. كما اكتشف أنه قد تم تسميته ضمن قائمة الأهداف المنشورة على وسائل التواصل الاجتماعي، حسب ما قاله في مقابلة هاتفية من موقع لا يريد الكشف عنه.
وقال الخطيب "قوات الأمن والسلطات المسؤولة عن التحقيقات لم تفعل شيئا لحماية رجال الدين أو التحقيق في من يقف وراء عمليات القتل هذه".
وقال إنه يعرف ما لا يقل عن 20 من رجال الدين الذين فروا من عدن، مشيرا إلى أن تقارير وسائل الإعلام المحلية تشير إلى أن الرقم يصل إلى 120. ورفض توجيه التهمة لأي جهة.
وقال "طالما أن الحرب مستمرة، فإن مثل هذه الأعمال ستستمر بشكل طبيعي".
وذلك ما يخشاه أتباعه. حيث يتناوب المصلون على إلقاء الخطب في مسجد هائل سعيد، وهو مبنى بلون زيتي اصفر بمآذن طويلة. ولا أحد يريد أن يعطي أسمائهم. وقال رجل يؤم المصلين في صلاة الفجر "علينا اتخاذ الاحتياطات". وأستدرك "الأمور ليست طبيعية".
خارج مسجد آخر في عدن علقت صورة على طول الجدار لزعيمه الراحل، شوقي كمادي. وهومن قام بتأهيل كل من الشرجبي ورفيقه فارع. وكان كمادي قد قتل قبل ثلاثة أشهر من اغتيال الشرجبي. حيث قام رجلان يستقلان دراجة نارية باغتياله أثناء اقترابه من مدرسة لتدريس مقرر قرآني.
حاليا، صعد فارع ليحل محل كمادي في مسجد الثوار ذي اللونيين الأخضر والأحمر. وهو أيضاً مؤيد للوحدة وينتقد علناً الإمارات العربية المتحدة ووكلائها.
لذا يقول فارع إنه يتوقع أن يموت ايضا.
لكنه يضيف أنه قام بالفعل بتأهيل 10 رجال دين آخرين.
وقال فارع: "إذا حدث لي شيء ما، فسوف يكون هناك آخرون سيهتمون بعدن".