بجسد منهك وروح متعبة، ولكن بصبر عجوز مضطر، يواصل الحاج الستيني "علي مهدي"، خوض معترك الحياة، ليحصد المزيد من التعب والمعاناة اليومية، في مدينة أنهكتها الحرب، وأرهقها الحصار، وأثقلت مآسيها كاهل معظم أبنائها.
ربما كان مفاجئا، في مدينة تعز المحاصرة منذ عامين، أنك مازلت تصادف رجلا مثل الحاج "علي مهدي"، بائع الحكمة المتجول، المعروف لدى معظم أبنائها، يجوب شوارعها المرهقة، حاملا معه معرضه الورقي المتنقل، باحثا عمن يشتري منه ملصقاته الورقية، الزاخرة بالآيات القرآنية والأدعية، وعبارات شهيرة تحتوي حكمة وخلاصة تجارب الحكماء.
غير أن بضاعته تلك، التي الفها الناس في شوارع المدينة وأصبحوا يعرفونها كحاملها، لم تعد اليوم رائجة كما كانت قبل عامين، حين كان يتحلق حوله أبناء عاصمة الثقافة، بحثا عن شراء الحكمة، المخطوطة على ملصقات ورقية، كان يحملها ويعرضها عليهم بسعادة غامرة.
قبل عامين، أي قبل أن تأتي مليشيا الحوثي والمخلوع بهذه الحرب إلى هذه المدينة "كان مردود يوم واحد في شارع واحد يكفيني وأسرتي ليومين كاملين"؛ يقول الحاج علي مهدي، المغلوب على أمره، مستدركا: "أما اليوم، فإن احتياجات يوم ٍ واحد فقط، لم يعد يكفها دخل شهر كامل".
الحاج "علي مهدي" - بائع متجول لملصقات قرآنية وأدعية في مدينة تعز (خاص: يمن شباب نت) |
اليوم، خمسمائة ريال فقط، قد يكون هو أفضل مبلغ يجمعه البائع المتجول العجوز في يومه وليلته، من معرضه الورقي المحمول بين يديه وعلى ظهره المُتعب. وذلك مكسب لا يكفي، بالتأكيد، لتلبية احتياجات اثنين من ابنائه الثمانية. ومع ذلك، فليس بمستبعد ان تجد البعض هنا، يغبطون الحاج مهدي، كونه ما يزال صامدا وقادرا على المثابرة، والحصول على دخل يومي، خصوصا أولئك الذين ما عادوا قادرين على توفير حتى قيمة وجبة واحدة في اليوم تسد جوعهم وأسرهم..!!
ومن المفارقات المؤلمة، أن تجد موظفين، كانوا ذات يوم يتوقفون أمام معرضه المتجول لشراء ملصقاته الورقية تلك، وربما دفع له بعضهم أكثر من حاجته، كمساعدة منهم لرجل فقير يثابر بدأب لإطعام أسرته. لكن ذلك كان يحدث قبل أن تتوقف الدولة عن صرف مرتباتهم الشهرية منذ أكثر من نصف عام..! قبل أن يتحولوا أنفسهم، اليوم، إلى باحثين عمن يرأف بهم ويساعدهم..!
يتحدث معك، الحاج مهدي بحسرة شديدة، ولسان حاله يقول: كيف بمن لم يجد قيمة قوته اليومي، أن يتوقف لشراء ملصقات الزينة هذه..؟! ومع ذلك، ما زال يثابر بصبر عجوز اضطرته الحاجة، وليس لديه من خيارات أخرى غير مواصلة حمل معرضه الصغير بيديه وعلى ظهره المقوس، والتجول به في شوارع مدينة منهكة. فيما ترتسم علامات استفهام في وجوه بعض المارة، وهم يشاهدون هذا العجوز الستيني المثابر، ولسان حالهم يقول: ترى كم سيصمد الحاج مهدي بحثا عمن يشتري منه بضاعته البائرة، في سوق راكد، إلا من المعاناة والقسوة؟
ليس وحده الحاج مهدي من عصفت به الحرب، فهنا في مدينة تعز، عشرات الاف باتوا يتجرعون مرارتها وقسوة الحياة، دون ان تلتفت إليهم الحكومة الشرعية والمنظمات الدولية، وقد أُغلقت جميع الأبواب في وجوههم، عدى ابواب الموت التي فُتحت على مصراعيها، منذ حملت مليشيا الحوثي والمخلوع الحرب إلى مدينتهم.