عندما أعلن مذيع محلي، صباح الثاني من شهر يوليو/تموز 1994، مقتل "إسكوبار"، ظن مستمعو إذاعة ميدلين أن الأمر يتعلق بخطأ ارتكبه معلق أدمن شراب التيكيلا المكسيكي فقرأ برقية قديمة عن مقتل بابلو إسكوبار، عراب المخدرات الشهير وزعيم كارتل ميدلين الذي قضي عليه شهر ديسمبر/كانون الأول 1993، لكنهم صدموا بأن الذي اغتيل بطلقات نارية، هو أندريس إسكوبار، 27 سنة، المدافع المحوري للمنتخب الكولومبي، العائد منذ تسعة أيام، من كأس العالم 1994 بأمريكا.
لم يتوقع كثيرون أن الجريمة ستكون بسبب المشاركة المخيبة لمنتخب "الكافيتريوس"، لكن الحزن سيجثم على كولومبيا برمتها، حين بدأت تتضح فجيعة أندريس الذي أهدر دمه بسبب الهدف العكسي في لعبة تسمى كرة القدم، أما العالم فسيصحو في ذلك المساء الحزين، على أكبر مأساة واكبت تاريخ الكرة في إبّان عرس المونديال.
1- رهائن من ذهب في سوق المخدرات والمراهنات
في تلك السنوات اشتهرت كولومبيا بأنها مرتع الجريمة المنظمة وتجار المخدرات، بطلها دون شك الإمبراطور بابلو إسكوبار الذي أنشأ له حكومة موازية واقتصاداً موازياً يتحرك بعوائد غبرة الكوكايين البيضاء، تلك التي درت عليه ملايين الدولارات، فأقتضى الحال أن يكون هدفاً للمخابرات الأمريكية منعاً لتمويله للسوق الأمريكية، ثم صار هدفاً أولاً لفرق مكافحة المخدرات التي أنشأتها الولايات المتحدة الأمريكية للحكومة الكولومبية المسماة "لوس بيبوس"، والتي تمكنت بعد مطاردة أعوام من القضاء عليه شتاء 1993.
خلف رحيل البارون فوضى عارمة في البلاد التي كانت تعيش على وقع أحداث العنف والجريمة والإرهاب المرتبط بالمخدرات أو ما يعرف بـ "الناركو تيروريزم"، حتى إنها صارت بؤرة سوداء في خريطة العالم، فالعاصمة بوغوتا هي أسوأ عاصمة من حيث السمعة، وأما ميدلين ثاني أكبر مدن البلاد فعرفت بـ"كارتل" الكوكايين في العالم.
لكن بلاد المخدرات والقهوة كانت تملك في تلك الفترة منتخباً كروياً عظيماً، تشكل من نجوم كبار، مثل الحارس البهلواني هيغيتا مبتدع حركة العقرب البهلوانية الشهيرة، والرقم 10 كارلوس فالديراما، والمهاجمان أسبيريا ورينكون، فيما يتشكل الوسط والدفاع من لاعبين أقوياء مثل غافيريا وبيريز وألفاريس وإسكوبار أندرس.
انتمى جل اللاعبين إلى فريق أتليتيكو ناسيونال الذي استفاد من تمويل كبير، تدفق من نشاطات تبييض أموال بارونات المخدرات وأبرزهم بابلو إسكوبار الذي اعتنى بشؤون الكرة والفرق، ثم صار صديقاً مقرباً للحارس روني هيغيتا، للحد الذي يستضيفه في سهرات شراب في مزرعته المحصنة. تمكن هذا الفريق من تطوير نتائجه عبر انتداب أفضل اللاعبين وجلب أفضل المحترفين واستقطاب أمهر اللاعبين المحليين بأموال طائلة وعقود مغرية، فحاز لقب كأس ليبرتادورس لأول مرة في تاريخ البلاد العام 1989.
انعكست قوة الناسيونال على المنتخب الكولومبي الذي بلغ قمة النضج بعد عودته للساحة العالمية في مونديال إيطاليا العام 1990، بعد 28 سنة من الغياب.
وفي مونديال إيطاليا بصم الكولومبيون شخصيتهم في الدور الأول، لكنهم خرجوا في لحظة طيش من حارسهم "هيغيتا" أمام العجوز روجي ميلا فخرجوا من دور الثمانية أمام الكاميرون.
2- الكافتريوس: فريق القهوة الذي سطع في ليل كولومبيا
علاوة على توفر جيل ذهبي، فسر المدرب الأوروغوياني الشهير كارلوس تاباريز الطفرة الكولومبية آنذاك بقوله: "منتخب كولومبيا هو الفريق الوطني الوحيد في العالم الذي يتدرب يومياً، لأن كل لاعبيه ينشطون سوياً في فريق الناسيونال"، وهو لم يكن مخطئاً البتة، إذ نجح الناخب الوطني فرانشيسكو ماتورانا المكنى باتشو، في إيجاد توليفة بديعة، جمعت بين المهارة الفردية واللعب الجماعي عبر أسلوب اللمسة الواحدة، فعرفت طريقته بـ" توكي.توكي" السابقة لطريقة "التيكي تاكا".
في تصفيات مونديال 1994، أدبت كولومبيا الأرجنتين بخماسية دون رد في عاصمة بيونس أيرس، ملحقة بها أكبر خسارة مذلة في عقر الدار، كما لم تنهزم غير مرة واحدة في 26 مباراة، أما دفاعاتها الحصينة فلم تتلقَّ غير هدفين.
رشح الأسطورة بيلي كولومبيا لنيل مونديال أمريكا، فقد كانت والحق يقال "برازيل بلا تاريخ"، فتوقع الجمهور الكولومبي الكثير من تشكيلة صارت المتنفس الوحيد للشعب المقهور، ونقطة الضوء الوحيدة في تلك الأعوام السود، وهرمون السعادة اليتيم إزاء الموجات المتتالية من أعمال العنف والخطف والجرائم.
أيضاً، شكل المنتخب القومي للحكومة الكولومبية واجهة مثالية لتحسين صورة بلد كان أحوج ما كان لتصدير الثقة عبر منتخب وطني ينتصر على الكبار، بدل تصدير أخبار القتل والخطف والمخدرات.
في عز الحرب المفتوحة ضد المخدرات، وقبل التوجه للمونديال الأمريكي، وقف المدافع أندريس إسكوبار، أمام عدسات الكاميرا ليصرح للتلفزيون، قائلاً: "يجب أن نبقى بمعزل عن العنف، فلكي نقدم مردوداً جيداً علينا أن نركز في الكرة".
لم يقل ذلك عبثاً، في بلد كان يشهد بعد رحيل بابلو إسكوبار انفلاتاً أمنياً واضحاً، داخل الشبكات الإجرامية التي سعت عبر "إسكوباريين جدد" احتلال الفراغ والسيطرة على تجارة الكوكايين وما يرتبط بها من سوق المراهنات حول نتائج المباريات التي تدر الملايين.
3- تهديدات بتصفية المدرب واللاعبين جميعاً بعد أول مباراة
في لقاء كان سهلاً على الورق رغم غياب الحارس الشهير هيغيتا، المبعد عن التشكيلة لتورطه في قضية دعارة مع قاصر، فقدت الكتيبة الكولومبية التركيز أمام رومانيا فخسرت منها بثلاثية مقابل واحد.
ارتفعت حدة الخوف والتوتر داخل المعسكر الكولومبي، بعدما قامت عصابات باختطاف ابن الظهير الأيمن فرناندو هيريرا، البالغ من العمر سنتين مشترطة فدية قبل أن تطلق سراحه، ثم تلقى المدرب ماتورانا ومساعدة الأول داريو غوميز جاراميلو المكنى بيبيلو تهديدات بالقتل، وأخرى بإعدام اللاعبين جميعاً في حال ما شارك لاعب وسط الميدان الدفاعي، باراباز غوميز جارامليو شقيق مساعد المدرب، في اللقاء الحاسم ضد البلد المنظم أمريكا، وكان ذلك إملاء من بارونات سوق الرهانات كي لا تخسر كولومبيا المواجهة، فتضيع منهم أموال طائلة، عندما بان بأن قيمة المباراة في سوق الرهان الكولومبي المرتبط ببارونات المخدرات بلغت 20 مليون دولار، في اتجاه وحيد هو فوز كولومبيا على أمريكا.
اضطر الناخب الكولومبي إلى استبعاده من لقاء التدارك، أما أسبيريا فشرح لزملائه في الغرفة قرار المدرب: "إذا لعب باراباز فإننا سنعدم جميعاً".
اعتقد اللاعبون أن المباراة ضد أبناء العم سام يمكن حسمها بسهولة، ولم يكونوا مخطئين البتة لاتساع الفوارق بين التشكيلتين. سيطرت كولومبيا على النصف الأول من المواجهة وأهدرت فرصتين ذهبيتين، وعكس مجرى اللعب سيتلقى الشعب الكولومبي، حمّاماً اسكتلندياً في الدقيقة 35، عندما قطع مدافعهم القوي "أندريس إسكوبار" المكنى بـ"فارس الملاعب" كرة أمريكية خطيرة في منطقة الجزاء، وزعت من اليسار بواسطة جون هاركز باتجاه قلب الهجوم، إيريني ستيوارت، ولأنها كانت داخلة فقد تزحلق المنقذ الذي حمل الرقم 2 في تلك المباراة، ليبعدها ركنية، لكنها تدحرجت هدفاً عكسياً في مرمى الحارس كوردوبا، وأمام الخطأ الفادح مكث اللاعب ملقى على الأرض متحسراً، وكأنه كان يعي حجم ما اقترفه، وما يمكن أن يحدث له.
حاول اللاعبون الكولومبيون الجري وراء تعديل النتيجة، والعودة في المباراة التي أضحت أكثر تعقيداً، أمام فريق أمريكي متوثب ومتحمس بتشجيع أكثر من 80.000 أمريكي محتشد في ملعب "روز بول" باسادينا، سعوا جاهدين للتشبث ببصيص الأمل، لكن الخوف الذي سكنهم منذ اللقاء الأول، شتت تركيزهم منذ اللحظة التي انتدبت السلطات الأمريكية فرقاً أمنية ومدرعات لحراسة مقر إقامتهم، ثم أخطرت نظيرتها الكولومبية بحراسة عائلات اللاعبين خشية تعرض أفرادها للخطف والابتزاز، ثم سقطت عليهم الصاعقة عندما أضاف ستيوارت الهدف الثاني مطلع الشوط الثاني، ومن بعيد عادت كولومبيا لتقلص النتيجة، في الدقيقة 90، عن طريق أودولوفو فالانسيا، لكن الوقت فات، كما فات أن تنجدهم بشيء المباراة الثالثة التي فازوا بها أمام سويسرا بهدفين لواحد.
4- القاتل كان يهتف "هدف" وراء كل طلقة غادرة
استقال المدرب ماتورانا بعد الخروج من الدور الأول مفضلاً الذهاب إلى إسبانيا. وخوفاً على حياتهم من التهديدات الجدية، لجأ اللاعبون إلى حياة سرية، بعدما تلقوا تعليمات بعدم الخروج من منازلهم.
وبحسب تصريحات للاعب فوستينو أسبيريا كان أدلى بها لإذاعة إسبانية العام 2019: "ونحن في طائرة العودة إلى كولومبيا جاءني أندريس وقال لي عليك ألا تخرج من بيتك إلى الملهى هناك تهديدات فعلية بقتلنا. عِدني بأن لا تخرج. لم أخرج لكنه هو الذي خرج، وغير معقول ما وقع".
في جريدة "إل تومبو" المحلية، كتب أندريس إسكوبار، المتهم الأول بإقصاء الفريق، مقالاً لتلطيف الأجواء المحتقنة جاء فيه: "لا يجب أن تتوقف الحياة هنا، علينا أن نواصل مسيرتنا، وننهض من جديد رغم الصعوبات، رجاء علينا أن نكون محترمين".
لم يكن يعلم أن حياته ستتوقف عند هذا الهدف، لمّا قرر بعد تسعة أيام من الاختباء، أن يخرج للحياة الليلية الصاخبة هو الذي صرح لوسائل الإعلام بنبرة تفاؤلية: "على عكس معارك الوحوش في البرية، لا يوجد موت في كرة القدم. لا يوجد موت. لا أحد يموت، لا أحد يقتل. ليس هناك سوى المتعة".
ظن من كان يلقب بـ"الجنتلمان" أن المخاوف قد تبددت نهائياً، فقصد رفقة أصدقائه ملهى "الإينديو". دبت بينه وبين الأخوين غالون المشبوهين في تجارة المخدرات مشاجرة كلامية، لقد تهجما عليه بكلمات نابية سمع خلالها لفظة "الخائن"، لم يلق لهما بالاً في خضم السهرة التي استمرت رغم كل شيء، إلى أن قرر الانصراف عبر موقف السيارات في الثالثة فجراً.
اقترب من الأخوين غالون ليستفسر عن الداعي لتصرفهما، ففوجئ بشخص ثالث هو سائقهما المسمى هومبرتو كاسترو مونيز، يخرج من شاحنته شاهراً مسدساً عيار 38 أطلق منه 6 رصاصات أصابته في الظهر، ثم لفظ المغدور من الخلف أنفاسه في المستشفى بعد أقل من ساعة. نقل شهود عيان أن القاتل كان يصرخ مع كل طلقة كان يطلقها: "هدف.. هدف"، كرر ذلك ست مرات هي عدد الصيحات التي صرخ بها معلق المباراة بعد توقيع أندرس الهدف العكسي ضد مرماه.
ألقي القبض على القاتل، وحكم عليه لاحقاً بـ 43 سنة سجناً نافذاً، أما أندريس فقد أقيمت له جنازة شعبية ضخمة شارك فيها أكثر من 100.000 شخص، بكاه الكثيرون، كما حظي بكلمة ألقاها رئيس البلاد على شرفه.
في العام 2005 أطلق سراح القاتل بعد 11 سنة قضاها في السجن، وخلف ذلك موجة غضب عارمة لدى أقاربه وعند فعاليات المجتمع المدني في كولومبيا، دون أن تأتي بنتيجة.
يتذكر الجميع أن والده قال عن مقتل ابنه الذي كان يتأهب للتوقيع لنادي أيسي ميلانو بطلب من فابيو كابيلو بعد انتهاء مونديال أمريكا "قتل ابني من أجل لا شيء".
رحل أندريس من أجل مباراة في المونديال، وأقيم له تمثال في حديقة ميدلين.
(عربي بوست)