هكذا فجأة ودون مقدمات تبدأ النار في الاشتعال بأعلى قمة المباني المخروطية المنتشرة في قرية قريقس، لتلتهم بقية المسكن بمحتوياته في سرعة فائقة تحول دون السيطرة عليها. هذا ما يرويه شهود عيان من سكان القرية. ومثل انتشار تلك النار السريع لم يجد السكان غير "الجن" لاتهامه بإشعال الحرائق التي خلفت حتى الآن رماد أكثر من 20 مسكنا من بيوت تلك القرية.
قرية قريقس، مثلها مثل الكثير من قرى شرق السودان، يتميز طابع بناء مساكنها من الأخشاب والمنتجات العشبية وتبنى سقيفتها بشكل مخروطي. وهو ذلك الطراز من المباني البسيطة الذي يناسب طقس تلك المناطق المشهورة بهطول الأمطار الغزيرة أثناء موسم الخريف. وتقع القرية في محلية حلفا الجديدة بولاية كسلا، شرقي السودان، وتبعد عن المدينة بنحو 30 كيلومترا.
ومنذ الخميس الماضي، يعيش سكان القرية حالة من الهلع والخوف جراء تلك النيران التي لم يجدوا لها تفسيرا سوى "الجن" الغاضب، ويقفون عاجزين أمام هذه الظاهرة بالرغم من محاولاتهم المتواصلة لإطفاء الحرائق ووصول عربات الإطفاء من حلفا القريبة. وهبت رئاسة الولاية في كسلا لنجدة المتضررين، ووعد والي الولاية خوجلي محمد بجبر ضررهم وتسخير إمكانيات الولاية لتجاوز محنتهم.
الجن الغاضب
يقول المحامي عثمان آدم، وهو من أبناء القرية، للجزيرة نت إن الأمر يحدث بسرعة خيالية مما يصعب السيطرة عليه. وأضاف أن النيران تلتهم كل المنزل المبني من الخشب و"القش" وتترك القاعدة المبنية من الطوب دون أن تترك عليها أثرا.
وأكد أن ما يجري ليس بفعل بشر وإنما شيء خارق للطبيعة، معززا أقوال أهل القرية بأن الذي يحدث هو بفعل "جن" غاضب". وأوضح آدم أن بالقرية 28 مسكنا مبنية بمواد الأخشاب تعود لعائلة آل عوض الكريم، التهمت النيران 24 مسكنا منها حتى الآن، آخرها ظُهر اليوم.
منشورات عديدة وفيديوهات في مواقع التواصل الاجتماعي، كشفت عن حجم الدمار الذي سببته الحرائق. ورصدت الانتقال السريع للنيران من منطقة لأخرى دون سبب ظاهر، على الرغم من تباعد المساكن عن بعضها. بل تجاوز الأمر الحد عندما التهمت النيران الخيام التي أمدتهم بها الولاية كمساعدات عاجلة قبل وصولها للمتضررين بينما وصلت المواد الغذائية سالمة. وإلى جانب عربات الإطفاء ومحاولات الأهالي لاحتواء النيران يستعين السكان بالشيوخ لقراءة القرآن لطرد الجن من القرية.
وقال آدم إن الولاية ورئاسة المحلية بحلفا وقفوا إلى جانب أهالي القرية ولكن ما زالت الظاهرة مستمرة، مشيرا إلى نشوب عدة حرائق في السنوات الماضية في قرى مختلفة لكنها ليست بهذا الحجم والاتساع.
للعلم رأي وأسباب أخرى
وقوع المنطقة في تخوم دائرة الأخدود الأفريقي العظيم، ووقوع القرية قريبا من مجرى نهر عطبرة، يجعل من احتمال التأثيرات الجيولوجية أمرا واردا في إشعال الحرائق في تلك القرية. ويعزو الخبير الجيولوجي الدكتور فرح صالح أمر ظاهرة الحرائق إلى عدة أسباب غير ظاهرة "الجن".
وقال صالح للجزيرة نت إن هناك الكثير من الحرائق يكون سببها الإنسان نفسه بتعامله الخاطئ مع الأعشاب إلى جانب مساعدة الرياح في انتشارها، وهو ما كان يحدث بالولاية الشمالية في حرائق النخيل المشهورة. كما يمكن أن تكون بفعل فاعل.
وكانت ظاهرة حرائق أشجار النخيل انتشرت في الولاية الشمالية بالسودان خلال السنوات الماضية وقضت على عشرات الآلاف من الأشجار في ظاهرة لافتة للنظر، وفقد المزارعون محاصيل تقدر بمليارات الجنيهات، وأرجعتها السلطات إلى عوامل طبيعية إلى جانب عدم الاهتمام بالنظافة.
وقال صالح إن هناك حرائق تنتج من الطبيعة في المناطق الصخرية أو الرملية، وفي حالة واحدة فقط، هي عندما تكون هناك مكامن غازية في الأعماق.
وأضاف أن ذلك يحدث عند اندفاع الغاز من منطقة الضغط المرتفع إلى مناطق ضغط منخفض، وتكون هناك كسور صخرية أو مسامات في الطبقات الرملية تساعد على خروج الغاز إلى السطح الذي يتفاعل مع الأكسجين لتنجم عنه الحرائق.
ولفت صالح إلى أن بعض المناطق في السودان كانت مخابئ إبان فترة الاستعمار الإنجليزي، حيث تم دفن كميات من البراميل المعبأة بالزيوت في باطن الأرض أثناء الحرب العالمية الثانية، وحدث لها تسريب وتحولت لغازات ومن الممكن أن تؤدي إلى إشعال الحرائق.
ويمضي الروائي السوداني عبدالعزيز بركة، ساكن في ذات الاتجاه، نافيا في صفحته على الفيسبوك أن تكون ظاهرة الحرائق بسبب الجن، مشيرا إلى ما حدث من حرائق في مدينة القضارف، القريبة من حلفا، وكان الناس يعزون أسبابها للجن، ولكنهم اكتشفوا لاحقا أن سببها هو وجود زجاجات توضع في قمة المساكن المبنية من المواد الخشبية، ويعمل ذلك على تركيز ضوء الشمس في بؤرة تؤدي للاشتعال.
ويظل الجدل محتدما لإيجاد تفسير منطقي لهذه الظاهرة التي تسببت في كوارث كبيرة لسكان تلك القرية التي لا تزال تقضي نهارها، منذ الخميس الماضي، وهي تشاهد ألسنة اللهب تشتعل في مساكنها.
المصدر: الجزيرة