مرة، قاد سارتر الاحتجاجات المناهضة لسياسة الحكومة الفرنسية في احتلال الجزائر. مستشارو الرئيس ديغول طرحوا عليه أن يأمر باعتقال سارتر، الذي بدوره رد عليهم، متعجبا:
تريدون أن أسجن فرنسا!
رواية اخرى تقول أن رده كان: فولتير لا يعتقل!
في السياق يروى أن ياسر عرفات، عندما أراد تشكيل أول حكومة فلسطينية، عرض على محمود درويش أن يشغل وزير الثقافة. وعندما اعتذر درويش، رد عرفات: لماذا ترفض؟ هل أنت أفضل من أندريه مالرو؟ و كان جواب درويش:
الضفة والقطاع ليسا فرنسا، وأبو عمار ليس شارل ديغول، ودرويش ليس مالرو؛ أما إذا تقاربت هذه المسميات على أي نحو ممكن، فإني عندها أفضل أن أكون جان سارتر، وليس مالرو!
المثقف علاقته مضطربة مع السلطة، خلق ليعارض، و أي تقارب بينه و بين السلطة خيانة محتملة و علاقة غير شرعية. عبدالله البردوني كشاعر و قبل ذلك مثقف، يعطينا مثالا حيا -حتى إن توفي صاحبه- عن المثقف الذي يدرك حدود و طبيعة العلاقة المفترضة مع السلطة. فهو لم يعمل معها و رفض عروضها و هيباتها المادية، و فوق ذلك كان دائم النقد و السخرية منها.
أقل ما توصف هذه العلاقة مع النظام، أنها كانت مضطربة حتى بعد رحيله؛ حيث لم يكرم أو يبرز كما تفعل الحكومات المحترمة مع كبارها، حتى أن هناك من يزعم أن أعمال للبردوني تعرضت للإخفاء بعد أن باغته الموت.
ليس شرطا للمثقف أن يكون بشعر مجعد و نظارة سميكة الاطار أو سيجارة في يده و شال حول عنقه، لكنه شرط أن يشعر بالسخط و الاكتئاب من الوضع العام، مثاليا في نظرته للأمور.
الواقعية مطلوبة في السياسي و المثالية في المثقف، وهذا ما يخلق التوازن بين المصلحة و القيم، فلا تطغى الذرائعية على الأخلاق.
نهرو، أول رئيس وزراء للهند بعد الاستقلال، قبل أن يكون سياسيا كان مثقفا مثاليا، ظهر ذلك في عمله على تأسيس رابطة دول عدم الانحياز، رغم ما تسبب ذلك من ضغوطات غربية على الهند.
مثالية نهرو كمفكر امتزجت أيضا مع واقعيته كسياسي، ظهر ذلك في تأسيس دولة ديمقراطية مستقرة لتصبح الهند أكبر دولة ديمقراطية في العالم منذ 1947 و إلى اليوم، هذا الأمر لم يحدث لمعظم الدول التي استقلت من الاستعمار، فغالبا ما كانت الحكومات التالية عسكرية و ديكتاتورية و استمر بعضها على هذا المنوال إلى اليوم.
اقراء أيضاً
منحدر المجاعة في اليمن
جندرة الحرب اليمنية
بين الكنيسة الأوروبية و القبيلة اليمنية