اتسمت طفولتنا بالهدوء. لم تشهد حروب، ولم تصلنا من صدى الطلقات سوى تلك التي عبرت أمامنا في الافلام، أو نشرات الأخبار، وأكُف آباؤنا تُغلِق أجفاننا خوفاً من أذى مشاهدتها. أكبر همومنا انحصر في انتظار "الكابتن ماجد" بعد أن يلقي بقدمه الكرة لتستقر في شبكة المرمى بعد ثلاث أيام.
لم نملك المناعة الكافية لمواجهة الحاضر، الذي وصل الينا مسلحاً ومصابا بلوثة جنون مسعورة.. تلقينا دروسه متأخرين عدة خطوات، بعدها أدركنا بأن جنونه كان متواجد على الدوام، يخفيه قناع مزيف بقوس إبتسامة كاذبة تكفي لنغفل عنه. للأسف لم نتعلم هذا الدرس منفردين، فقد صُفع اطفالنا بدقات طبول الحرب، وتساقط على رؤوسهم بأسواء ما يحمل.
تُعامِلْ الحروب الأطفال كامرأة قاسية مستبدة لا تعرف الرحمة؛ تُذِيقَهم من نارها أضعاف ما يناله الكبار؛ تجرف طفولتهم وتنثرها رماد لا يتبقى منه سوى أثر يعبر على استحياء.. فما يتجرعونه من موت حي جعلهم يثملون من رائحة الدم والاشلاء.. تبلدت براءتهم وأصبح مشهد استنزاف الروح أمر اعتيادي، لا يرون من حدود العالم سواه.
أتساءل عن نوعية الأحلام التي تراود نومهم؟ فلم يحرمهم الواقع من أشباح ووحوش آدمية حية لا تنتظر الليل لتحاول ملاحقتهم، بل تنتزع حياة ذويهم وتلقي لهم بالأجساد يحتضنونها وهم يضعون أصابعهم على مجرى تنفسها بحثاً عن رمق حي... !!
صمتت الأزقة والشوارع بعد أن كانت ضاجة بهم، مزدحمة بمؤامراتهم الشقية وصرخاتهم النزقة على من يحتجز كرتهم الطائشة ليعيدها، توقفوا عن الفرار من العقاب وقد كفوا عن تكسير زجاج نوافذ بيوت الحارة..
تغيرت هيئتهم، ولم أعد ألمح سوى ظلال طفولة هرمت، أجبرتها الحرب على دفع "عربية البطاط" الثقيلة الحجم بأجسادهم الهزيلة، يروجون لجودة بضاعتهم على نواصي الاسواق، وتحولت هتافات الكثير منهم إلى تسول خانع، غارق في بحر نظرة وجع جائعة..
ربما الأكثر بؤساً هو ذلك الظل الذي تحاول الملابس العسكرية الواسعة إخفاء حجمه، وقد زودته بسلاح ينافسه في الطول، يقف بجوار برميل نقطة عسكرية بمهمة القبض على "الإرهابيين والدواعش"، وآخر زج به في جبهة لا ترحم...! اُستبدلت الأبجديات في ذهنه إلى وحشية اُعتمدت كأسلوب حياة، وقد اُنتزع منه قلبه ليتدرب على سلب الأنفس بعد تحول مسدس الماء بين يديه إلى بندقية قنص...!!
ليست الشفقة هي الشعور الأنسب لتوصيف حال وطن حرقت وتشوهت طفولته بسبب شراهة الكبار وجبروتهم. أي مألات وأي ثمن سيُدفَع في مستقبل افتقد أطفاله وطفولته؟ وكيف سيتعامل الغد مع جيل انتجته مستنقعات الحرب، بفرض خروجه حياً أو سليم الجسد لا بتر فيه؟!..
اكتب لمحاولة ازاحة بقعة سوداء في قلبي، وأعلم أن تجار الحروب لن يلتفتوا لأي مناشدة...! ليست الطفولة الموؤدة سوى مجرد هراء لا يعنيهم، ولا يهمهم المستقبل القاتم بقدر امتلاء جيوبهم، وبحجم مكاسبهم من مساحات الأرض حتى أن تحولت لمجرد مقابر أطفال...!!
اقراء أيضاً
في رفقة شبح ديمقراطي غربي
الرسام المجرم
"البالة".. تغريبة اليمني