أثارت الاستحداثات العسكرية في الجزر، والسواحل، والبحر الإقليمي اليمني، التي قامت بها السعودية والإمارات، بوصفهما العضوين البارزين في التحالف العربي العسكري لدعم الشرعية في اليمن، وكذا إعادة توزيع مناطق نفوذهما في محافظات الساحل الجنوبي، جدلا واسعا في أوساط الرأي العام اليمني.
ولاقت تلك الأعمال ردود أفعال شعبية غاضبة، خاصة مع توارد أنباء عن قيام الإمارات باستغلال بعض الجزر والموانئ اليمنية في أغراض عسكرية لا صلة لها بأهداف التحالف المعلنة، ودون علم وموافقة القيادة الشرعية للبلاد.
ما من شك أن نشاطات من هذا القبيل قد تمت، وأن بعض منها في الطريق إلى ذلك؛ فالإطلالة البحرية لليمن، على البحر الأحمر وخليج عدن، تكتسب أهمية استراتيجية كبيرة، لا ينافسها فيها سوى قلة قليلة من دول المنطقة، وهي بذلك تشبع غريزة التوسع والغايات الجيوسياسية للامارات والسعودية، بعد أن بات اليمن في قبضتهما، وغموض مآلات الحرب الدائرة.
تكتسب الإطلالة البحرية لليمن على البحر الأحمر وخليج عدن أهمية استراتيجية لا تنافسها فيها سوى قلة من الدول العربية، ما جعلها مثار أطماع توسعية وغايات جيوسياسية لرأسي دول التحالف بعد أن بات اليمن في قبضتهما
بنظرة سريعة إلى خريطة الموقع البحري لليمن، تتحدد هذه الأهمية، وكيف أنه يثير الأطماع، وإلى أي مدى تمكنت الدول اليمنية المتعاقبة، من الاضطلاع بأدوار إنسانية بارزة من خلال هذا الموقع، إلى الحد، الذي عَرّضَّ البلاد لكثير من حملات الغزو والتدخل الخارجي، قديما وحديثا.
تنوع في قيم الجيوبوليتك
تقع مناطق من الساحل اليمني على حواف الأجزاء الشمالية الغربية من بحر العرب، والضفة الشمالية لخليج عدن، فيما يمتد الجزء الأكبر منها على الجانب الشرقي للبحر الأحمر، بطول إجمالي 2500 كم، ابتداء من الحدود البحرية مع سلطنة عمان، وحتى الحدود البحرية مع المملكة السعودية، كما تحيط المياه الزرقاء في المحيط الهندي بسواحل جزيرة سقطرى، وما إليها من الجزر الصغيرة، التي تشكل أرخبيلا كبيرا، يمثل المساحة الأكبر بين الجزر الأخرى.
بناء على هذا الموقع، تتيح إطلالته البحرية مجموعة من القيم الجيوبوليتيكية المتنوعة، مثل: الموانئ، والجزر، والمضائق، والتنوع الطبيعي، وتعدد الموارد، والقرب من خطوط الملاحة البحرية الدولية، التي تمر عبرها شحنات الطاقة، التي تشكل، مجتمعة، ثقلا سياسيا، وعسكريا، وأمنيا، في ميزان قوة الدولة اليمنية.
انتجت سواحل العربية السعيدة (اليمن)، قديما وخلال عصرها الحديث، مجموعة كبيرة من الموانئ، التي لعبت دورا بارزا في مجال التجارة الإقليمية والدولية؛ حيث ارتبط ذكر بعضها بنقل وتجارة البخور، والطيوب، والبن. وانتظمت هذه الموانئ على امتداد السواحل المطلة على بحر العرب، وخليج عدن، والبحر الأحمر، كمنافذ للدول المتعاقبة، وكان من بينها: المكلا، وقنا (بير علي)، وعدن، والمخأ، والحديدة، وغُليفقة.
كما لا يخفى وجود موانئ أخرى شهيرة، كانت ضمن الجغرافيا اليمنية حتى ثلاثينيات القرن العشرين، ثم أضحت، بفعل أحداث سياسية توسعية واستعمارية، ضمن أراضي سلطنة عُمان والمملكة السعودية.
في سياق هذه القيم، يأتي مضيق باب المندب، بوصفه أحد أبرز القيم المؤثرة في ميزان قوة الدولة اليمنية، لكنه لم يستغل بالقدر، الذي يعزز موقفها السياسي، والاقتصادي، والعسكري، الذي يردع القوى الخارجية الطامعة، مع حفظ وصون حقوق الدول الأخرى، في حرية وسلامة الملاحة.
فالمضيق، بما يؤديه من دور ملاحي وتجاري، يمثل حلقة وصل بين موانئ الشرق والغرب، وهو دور رئيس لما تضطلع به قناة السويس في هذا الشأن، إلى جانب دوره العسكري، الذي تعاظمت مكانته نتيجة لعدد من التحولات، التي شهدتها منطقة المحيط الهندي والبحر الأحمر، مثل: افتتاح قناة السويس عام 1869، واستخراج النفط في الخليج العربي، وبروز الكيان الصهيوني على أرض فلسطين، كدولة من دول البحر الأحمر بعد الإعلان عنها عام 1948.
أتاح الموقع الاستراتيجي الهام لليمن مجموعة من القيم الجيوبوليتيكية المتنوعة، على رأسها ما يمثله مضيق باب المندب من دور ملاحي وتجاري كحلقة وصل بين موانئ الشرق والغرب، إضافة إلى دوره العسكري التاريخي كما حدث في الحرب العربية الصهيونية، 1973، والتي جعلته محط أنظار القوى الكبرى كخطر مستقبلي على مصالحها
إن مضيق باب المندب، وإن لم يستغل في تعزيز الأمن الوطني اليمني، وفقا لما أثبتته الأحداث، التي يمر بها اليمن، بفعل انقلاب المتمردين الحوثيين على السلطة الشرعية في سبتمبر/أيلول 2014، إلا أنه أسهم، قبل ذلك وبشكل فعال، في تعزيز جبهة المواجهة العربية ضد الأطماع التوسعية للكيان الصهيوني؛ كما حدث في حرب عام 1973؛ حيث رابطت بالقرب منه مدمرتان تابعتان للبحرية المصرية، بالتعاون مع قطع بحرية تابعة للبحرية اليمنية، التي انتشرت في بعض الجزر، في إطار الحظر البحري العربي على سفن الكيان الصهيوني، في الوقت، الذي كانت فيه قناة السويس مغلقة منذ حرب عام 1967.
لقد لفت هذا الدور أنظار القوى الكبرى، إلى ما قد يشكله من خطر مستقبلي على مصالحها، فيما لو بقي تحت سيطرة الأنظمة الثورية العربية، التي ظهرت خلال عقدي الخمسينيات والستينيات؛ فتصاعد التنافس بين الاتحاد السوفييتي (روسيا)، والولايات المتحدة؛ إذ يمثل البحر الأحمر وخليج عدن مناطق حساسة في الحزام المائي للاتحاد السوفييتي، الذي يمتد من شمالي بحيرة قزوين، ومرورا بالخليج العربي، فخليج عدن، فالبحر الأحمر، حتى البحر الأسود. أما الولايات المتحدة، فكانت، ولا تزال، تنظر إلى المنطقة، كلها، بوصفها مركز هيمنتها البحرية، الذي تنطلق منه إلى المحيط الهندي شرقا، وحوض المتوسط غربا، وشريانها النفطي، الذي استوعبت أهميته عام 1973.
تأتي الجزر والأرخبيلات اليمنية، لتشكِّل، إضافة إلى أهميتها في إطار مفهوم الأمن الخشن، دعامة قوية للأمن البحري، خاصة فيما يتعلق بأمن الطاقة، بوصفه أحد متغيرات الأمن القومي للدول المصدرة والمستوردة للنفط. كما قد يستغل بعضها في توفير تموينات وقود السفن، أو كمناطق للتجارة الحرة، أو السياحة؛ وهو ما يمكن أن تضطلع به بعض الجزر اليمنية ذائعة الصيت، مثل: أرخبيل سقطرى، وأرخبيل حنيش، وجزيرة كمران، وزقر، وكذا جزيرة ميون(بريم)، التي تقسم مضيق باب المندب إلى قناتين ملاحيتين، إحداهما أقرب إلى الساحل اليمني، ويطلق عليها "باب الإسكندر"، والأخرى أقرب إلى الساحل الإفريقي، ويطلق عليها "دقة المايون".
الأطماع والتدخلات الدولية
في ظروف وحقب تاريخية مختلفة، ومع بلوغ الموانئ اليمنية مكانة منافسة لغيرها من الموانئ، كانت بعض الإمبراطوريات والدول الكبرى، تلجأ إلى اتخاذ تدابير وإجراءات عملية صارمة؛ بقصد محاربتها، وشل حركتها.
بل بلغ الأمر حد الاستيلاء عليها بالقوة. ويستدل على ذلك، مثلا، بما أورده عدد من المؤرخين حول ما قام به البطالسة والرومان، من نقل لخطوط التجارة الدولية من البحر الأحمر إلى طرق برية تمتد بين مملكة أكسوم (الحبشة)، ومصر العليا (صعيد مصر)، وقيام البريطانيين بإخضاع ميناء عدن والسيطرة عليه بالقوة عام 1839، وإبقائه تحت سيطرتهم حتى عام 1967.
إن المتتبع للأحداث التاريخية، التي مرت بها مناطق الساحل اليمني، يلحظ أنها كانت موضع تنافس القوى الاستعمارية الكبرى، كلما انتابت السلطات المركزية الحاكمة حالة وهن أو تمزق أو احتراب داخلي. وكانت الحملات الاستعمارية الأوروبية، عادة ما تستقر في المناطق الساحلية والجزر؛ لأن غاية ما تسعى إليه، الاستيلاء على مدن الساحل وموانئها؛ لتأمين حركة التجارة والسفن قبالة سواحلها، واستغلال موارد هذه المناطق.
من بين الدول الاستعمارية، التي وضعت يدها على هذه المناطق، الفرس والروم، وكذا مملكة أكسوم، التي كانت بمثابة قاعدة متقدمة للرومان والبيزنطيين، للوصول بحرا إلى اليمن وإلى إمارات وممالك المنطقة؛ من أجل حماية مصالح هذه الدول، ودعما لمراكز قوى داخلية موالية، وتغليب الطرف الموالي على الطرف المناوئ.
المتتبع للأحداث التاريخية، يلحظ أن مناطق الساحل اليمني كانت موضع تنافس القوى الاستعمارية الكبرى، كلما انتابت السلطات المركزية الحاكمة حالة وهن أو تمزق أو احتراب داخلي. وكانت الحملات الاستعمارية الأوروبية، عادة ما تستقر في المناطق الساحلية والجزر؛ لأن غاية ما تسعى إليه هو الاستيلاء على مدن الساحل وموانئها لتأمين حركة التجارة والسفن قبالة سواحلها واستغلال موارد هذه المناطق.
ما يؤكد على تركز أطماع القوى الاستعمارية على المدن الساحلية والجزر، أن معظم الحملات الاستعمارية القديمة، والمحاولات المشابهة لها حديثا، كان مصدرها البحر، كما تركزت حملات البرتغاليين والبريطانيين على المدن الساحلية والجزر الهامة، خلافا للعثمانيين، الذين جمعوا بين احتلال المناطق الساحلية والجبلية، وبين هذا وذاك ظلت مناطق الساحل والجزر، آخر ما يتخلى عنه الغزاة عند طردهم من البلاد.
مع اشتداد التنافس على البحر الأحمر، كانت الجزر اليمنية هدفا مغريا لبعض القوى الطامعة، وقد كانت إرتيريا مطية لهذه القوى، في واقعة احتلال جزيرة حنيش الكبرى عام 1995، بدعم ومؤازة قوات تابعة للكيان الصهيوني، وذلك بعد انسداد أفق التفاهم بين البلدين بشأن استحداثات إنشائية، قامت بها شركة سياحية دولية بنظر السلطات اليمنية. وقد جنح اليمن إلى الحل الدبلوماسي للأزمة؛ فاستعيدت الجزيرة، ورسمت الحدود البحرية بين البلدين، بموجب حكم نهائي للجنة تحكيم دولية أعلن في فبراير/شباط 1998.
أوجه جديدة للأطماع والتدخلات
بعد أكثر من عامين ونصف على تدخل التحالف العربي لدعم الشرعية في اليمن، الذي بدأ عملياته في مارس/آذار 2015، يتجلى لمتابعي الأحداث تركيز اهتمام قطبيه على المدن الساحلية، والجزر، والموانئ، ومضيق باب المندب، انطلاقا مما تحققه هذه المناطق لهما وللدول الكبرى من أهداف جيوسياسية مشتركة.
فمع الوصاية الغير معلنة على مضيق باب المندب وبعض الجزر اليمنية، قد نكتشف مستقبلا، أن ما أثير حول قيام الإمارات ببناء قواعد عسكرية في جزيرة ميون بباب المندب، وجزر يمنية أخرى، بات حقيقة مدركة، ومشكلة مؤجلة تنتظر الحكومات اليمنية في المستقبل.
بعد أكثر من عامين ونصف على تدخل التحالف العربي في اليمن، انجلت الأحداث عن تركيز اهتمام قطبيه على المدن الساحلية والجزر والموانئ ومضيق باب المندب، لما تحققه هذه المناطق لهما وللدول الكبرى من أهداف جيوسياسية مشتركة
ومع ذلك كله، يمكن القول إن التنافس الإماراتي والسعودي على مناطق الساحل اليمني والجزر والموانئ، يظل مقيدا الصلاحية؛ بحيث لا يتخطى المصالح الأمريكية والغربية عموما، وهو ذاته النهج، الذي كان الرومانيون والبيزنطيون يتبعونه مع ملوك أكسوم، لمهاجمة اليمن.
يمكن النظر إلى دخول جزيرتي تيران وصنافير المصريتين ضمن أراضي السعودية، وما يرتب لهما من مستقبل اقتصادي، وتجاري، وعسكري، في ظل تزايد المتنافسين على البحر الأحمر، ولا شك أن دور المجال البحري اليمني، بموانئه، وجزره، وخلجانه، وبحره الإقليمي، سيكون رقما مؤثرا في المعادلات الاستراتيجية والجيوسياسية المختلفة، التي تلخص قيم ونتائج التنافس، إن لم نقل الصراع القادم.
مستقبلا، قد يبدو تأثير القيم الجيوبوليتكية لموقع اليمن في قراراته الاستراتيجية، غير واضح المعالم والأبعاد، خاصة بعد أن آل مفتاح الباب الجنوبي للبحر الأحمر إلى غير صاحب الحق الشرعي، ومثله مصير بعض الجزر والموانئ، ولربما يتشتت هذا التأثير بين فيدراليات ضعيفة متناحرة، قد تنتجها تسويات سياسية مشبوهة للأزمة الراهنة.
* باحث يمني في الشئون الاستراتيجية
اقراء أيضاً
مفاوضات السلام اليمنية وتراجع الأجندات الخارجية
برلمان اليمن وحكومته: ضَعُفَ الطالب والمطلوب
"الانتقالي الجنوبي" ولعبة الإرهاب في أَبْيَن