- من المؤكد أن محافظ البنك المركزي أحمد غالب المعبقي، كان شجاعا بما فيه الكفاية لتقديم استقالته دفاعا عن قراراته السيادية التي أصدرها قبل أشهر بخصوص البنوك والمصارف..
 
- تاريخ الاستقالة، كما هو واضح في رسالته، يعود إلى 17 يوليو الجاري- أي أنها تقريبا كانت بعد ظهور تسريبات تشير إلى أن مجلس القيادة الرئاسي يعزم التراجع عن قرارات البنك، عطفا على مذكرة المبعوث الأممي إلى اليمن هانس غروندبرغ، إلى المجلس، في 11 من شهر يوليو/ تموز الجاري، والتي كما يقال إنها الأخرى جاءت بإيعاز سعودي للمبعوث، تحت ذريعة التهدئة حفاظا على مسار خارطة السلام التي تدعمها، وتمثل خلاصة تفاهماتها الثنائية مع ميليشيات الحوثي الإرهابية..!!
 
- ومنذ ذلك الحين، يبدو أن محافظ البنك ظل متمسكا بقراراته، حتى أن المملكة استدعته مبكرا للمناقشة، إلا أنه لم يستجب مباشرة، وقيل إنه "تلكئ"، وقبل يومين فقط عُلم أنه وصل الرياض، وفق ما سربه الصحفي عبد الله دوبله في برنامجه "من الآخر" على قناة "يمن شباب". وبحسب التسريبات يُعتقد أن المحافظ وضع قيد الإقامة الجبرية فور وصوله الرياض. ومع أن هناك من يتبرع بالنفي، إلا أن مسار الأحداث ومآلاتها الأخيرة قد توحي بحدوث ذلك فعلا. كما أنه لم يصدر نفيا عن المعبقي نفسه حتى الآن..!!
 
- اليوم؛ أعلن المبعوث الأممي انه تم التوصل الى أتفاق بين الحكومة والحوثيين يقضي بإلغاء قرارات وإجراءات البنك المركزي الأخيرة. وركزوا على كلمة "الغاء"، في حين أن مذكرة المبعوث الأممي الأولى (المرفوعة إلى المجلس الرئاسي في 11 يوليو)، لم تكن قد طالبت بأكثر من "تأجيل" تنفيذ القرارات الى نهاية شهر أغسطس، وليس "الغائها" كليا..!! والسؤال هنا، هو: من الذي منحها الآن صفة "الإلغاء"؟
 
- بل أكثر من ذلك؛ ذكر بيان المبعوث الأممي، الأخير ايضا؛ أن الاتفاق الجديد، ليس فقط ينص على الاتفاق على الغاء قرارات البنك.. الخ، بل وأيضا: "والتوقف مستقبلا عن أي قرارات أو إجراءات مماثلة"..!! كما ربط مناقشة كافة القضايا الاقتصادية والإنسانية "بناء على خارطة الطريق"، ما يجعل قرارات البنك المستقبلية محكومة باتفاقات السعودية مع الحوثيين..!!
 
- أيضا؛ إذا ما عدنا قليلا إلى الوراء، لقراءة موقف المجلس الرئاسي، من خلال رده على مذكرة المبعوث الأممي الأولى (11 يوليو)، في اجتماعه المنعقد بعد يوم من رسالة المبعوث، نجد أن المجلس كان مصرا على تمسكه بثلاثة شروط رئيسية محددة، في أي حوار حول قرارات البنك، كان أولها: تمسكه "باستئناف تصدير النفط". لكن هذا الشرط تم تجاهله تماما في الاتفاق الجديد المعلن عنه اليوم بواسطة المبعوث الأممي..!! والسؤال هنا أيضا، هو: لماذا، وكيف، قبلت حكومتنا التنازل عن هذا الشرط؟ رغم ما يتسبب به ذلك من فقدانها لملايين الدولارات يوميا؟  
 
- واليوم، وبالتزامن مع الجدل الدائر على خلفية إعلان المبعوث الأممي عن هذا الاتفاق الجديد، تم تسريب رسالة استقالة محافظ البنك المركزي أحمد غالب المعبقي، المؤرخة بتاريخ سابق (2024-07-17).
 
- ووسط الهرج والمرج الذي شهدته وسائط التواصل الاجتماعي بشأن صحة هذه الاستقالة من عدمه، جاءت تصريحات "مصدر مسئول" في مكتب الرئاسة، لوكالة سبأ الحكومية، لتحسم هذا الجدل سريعا، بتأكيده رفض المجلس "بالإجماع" استقالة محافظ البنك، والتمسك بعودته الى منصبه..!!
 
- وهذا، إلى جانب تأكيده حدوث استقالة المحافظ فعلا، فإنه يكشف لنا، ضمنيا، مقدار الضغوط التي تعرض لها المحافظ، كي يتراجع عن استقالته. حيث آخذ كل ذلك قرابة أسبوعين (منذ رسالة المبعوث الأممي الأولى، وما تلاها مباشرة من اجتماع المجلس الرئاسي وموافقته على الحوار بشأن التراجع عن قرارات البنك، وصولا إلى هذا الإعلان الرسمي اليوم بالتراجع عنها). فيما أن هذا كله كان بالإمكان اختصاره إلى ثلاثة أيام بالكثير، بعد اجتماع المجلس الرئاسي (في 12 يوليو)، في حال لم يكن هناك رفضا وممانعة من قبل محافظ البنك.
 
والسؤال هو: طالما وأن المجلس الرئاسي رفض استقالة المحافظ، المقدمة إليه بتاريخ 17 يوليو، فلماذا لم يعلن ذلك في وقته؟ أو بالأحرى: لماذا استغرق الأمر أسبوعا كاملا، ليقول لنا المجلس، اليوم فقط، إنه رفض استقالة المحافظ؟ والإجابة المنطقية على السؤال، هي: إن هذا التصريح التوضيحي، للمصدر المسئول بالرئاسة، جاء اضطراريا، كرد طبيعي على تسريب استقالة المحافظ اليوم.
 
وهذا بدوره، يدفعنا إلى التساؤل: لماذا سربت الاستقالة اليوم إذا، رغم صدورها قبل أسبوع تقريبا؟ والإجابة الأكثر ترجيحا هنا، هي: أن تسريب الاستقالة اليوم جاء ردا على إعلان المبعوث الأممي التوصل إلى اتفاق بإلغاء قرارات البنك.
 
وبالحملة؛ فإن كل تلك التساؤلات المتسلسلة، وإجاباتها، توصلنا جميعها إلى حقيقة أن المحافظ لم يكن موافقا على التراجع عن قرارات البنك. ولعل استقدام الحكومة بالنيابة عنه للتوقيع على الاتفاق الجديد، يشير أيضا إلى استمرار المحافظ بالرفض حتى النهاية، وتسريب استقالته جاء أيضا في هذا السياق نفسه.
 
ومع الأخذ بالاعتبار كل ما سبق، تأتي تصريحات المسئول الرئاسي بعدول المحافظ عن الاستقالة، لتعزز لنا حقيقة أن الرجل تعرض لضغوطات شديدة للقبول بالعودة قسرا إلى منصبه. الأمر الذي من شأنه أن يحيل التسريبات القائلة بوضعه قيد الإقامة الجبرية في الرياض، إلى حقيقة شبه مؤكدة.
 
ومن الواضح أن حدوث كل هذه السلسلة المتسارعة من الأحداث، اليوم، بعد أسابيع من الجمود والاختناق، كان حتميا، لإخراج هذه المسرحية الهزلية، التي ما كان لها أن تخرج بأفضل من هذه الصورة (المحسنة). ويذهب البعض إلى أن مجلس القيادة الرئاسي كان بإمكانه تمرير الاتفاق الجديد دون أن يضطر حتى إلى رفض استقالة المحافظ. ومع أن ذلك صحيحا، إلا أن نتيجته ما كانت لتكون بهذه الصورة المحسنة قسريا. ذلك أن قبول الاستقالة في مثل هذا الوضع الحرج، من المرجح أنه سيشكل حرجا مضاعفا، ربما أكثر إذلالا من شكله الحالي، على المجلس الرئاسي والحكومة، ومن ورائهم بالتأكيد المملكة السعودية، المخرج الرئيسي لهذا الاتفاق (حرص المبعوث الأممي غروندبرغ، في البيان الصادر عنه اليوم، على الإشارة إلى "الدور الهام الذي لعبته المملكة العربية السعودية في التوصل إلى هذا الاتفاق").
 
 وبالعودة إلى طريقة تناول الرئاسة لرفض استقالة المحافظ، نقلت وكالة الأنباء الحكومية (سبأ) على لسان من وصفته بـ "مصدر مسئول في مكتب رئاسة الجمهورية"- بعد تأكيده على رفض المجلس الرئاسي بالإجماع استقالة محافظ البنك- قوله: إن محافظ البنك "عدل عن قرار الاستقالة، وهو باق في منصبه بدعم كامل من مجلس القيادة والحكومة لمواصلة جهود الاصلاحات المصرفية الشاملة المدعومة من الاشقاء والأصدقاء"..!!
 
وإلى جانب ما تحمله تلك التصريحات من إيحاءات قهرية بشأن عدول المحافظ عن استقالته، فإن عدم إخراج هذا الأمر عن طريق تصريحات مقتضبه لـ "مصدر مسئول في مكتب رئاسة الجمهورية"، وليس بيانا رسميا للرئاسة، يحمل هو الأخر إيحاءات سلبية: إما بوجود ضغوطات على المحافظ، فيما لو صحت ما تضمنته تلك التصريحات من الأساس. وإما أن المحافظ ما زال غير قادر على قول شيء حتى الآن في ظل ما يتردد عن وضعه (المحتمل) قيد الإقامة الجبرية.
 
والسؤال الذي يفرض نفسه الأن: طالما وأن الموضوع متعلق برفض استقالته المنشورة بشكل رسمي،  أليس الأحرى، هنا، أن يقوم المحافظ نفسه بتقديم توضيح رسمي مماثل لهذه الحالة الملتبسة، بإبعادها الوطنية الخطيرة؟ ودون ذلك فإن التفسير الأقرب للترجيح أن الرجل ما زال يرفض العودة، وأن تصريحات "المصدر المسئول" تلك ربما جاءت لتضعه أمام الأمر الواقع..!!
    
وعلى أية حال؛ سواء جاء تراجع المحافظ عن استقالته تحت الضغط والإجبار القسري، أم نتيجة امتثاله الطوعي لقرار المجلس الرئاسي برفض استقالته، وقبوله ذلك باعتباره موظفا حكوميا محترفا يتوجب عليه التنفيذ دون نقاش.. إلا أن ما يثير الشفقة والسخرية أكثر، هو حديث المصدر عن "دعم كامل" من مجلس القيادة والحكومة للمحافظ بعد عودته الى منصبه..!!
 
وتلك صورة كاريكاتورية ساخرة، أخرى، تضاف إلى درزينة الهزء واللطمات المتوالية، التي يكيلها مسئولو الشرعية لنا دون مسئولية..!! فعن أي دعم يتحدث المجلس، يتساءل الجمهور، بعد هذه الفضيحة المدوية، التي تحولت الى حفلة تهكم مفتوحة على مصراعيها في وسائل التواصل الاجتماعي من مجلس الواحد (+ 7)، كما يروق للبعض تسميته على سبيل التهكم..؟!
 
وهل ثمة ما يمكن دعمه، بعد هذا الخذلان "المُذل"، لأول محافظ أبدا قليلا فقط من الشجاعة والقوة، ليتحول إلى أيقونة شعبية، يستلهم منه المقهورون بالحرب والمسحوقون بالاقتصاد المتردي، بعض الأمل بقوة الدولة والحكومة، أمام صلف وتعنت ميليشيات انقلابية إجرامية لم تتورع يوما عن استثمار كل فرصة لإذلالنا، في ظل ضعف واستكانة حكومية مقيتة لا حدود لها..!!   
 
 في مطلع بيانه، أمس، قال المبعوث الأممي، إنه تلقى نصا مكتوبا "تسلمه" من الطرفين (الحكومة اليمنية، وجماعة أنصار الله) يتضمن أربع نقاط، أولها: "الغاء القرارات والاجراءات الأخيرة ضد البنوك من الجانبين، والتوقف مستقبلا عن أي قرارات أو اجراءات مماثله"..
 
حسنا، بالله عليكم، كيف سيعود محافظ البنك الى عمله، "لمواصلة جهود الاصلاحات المصرفية الشاملة"، "بدعم كامل من مجلس القيادة والحكومة"، بعد أن نزعتم عنه، بموجب الاتفاق الجديد، حقه في إصدار أي قرارات مستقبلية (لا تروق الميليشيات)؟!- أو لنقل مجازا: بعد أن تلقى "قرصة الأذن" التي يتلقاها الأطفال المخطئون..!!
 
ولكن، مهلا: من الذي أخطأ؟ نعم، ربما "قُرصت" أذن الشخص الخطأ. أو هذا ما يبدو للرائي في أول وهلة. أما الحقيقة التي تعرفونها جيدا، هي: أن الجميع تعرض لـ "القرص" في أذنيه، من الأمير، إلى السفير، إلى الرئيس ونوابه السبعة، إلى الحكومة ووزرائها، إلى المحافظ، وصولا إلى المواطن المسكين الذي صدق حلمه بإمكانية استعادة الدولة، "لو كان معه رجال"..!
 
 

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر