خنجر قحطان


عبد الله شروح

 الثانية ظهراً. الشمس تحترق بلا هوادة في سماء خالية من السحب، تُلهب أديم الأرض بسياطها النارية، وتجعل من خيمتهما الصّغيرة أشبه بتنورٍ مشتعل.
 
هما ضمن قوّةٍ بسيطةٍ مُعسكِرةٍ في مؤخرة الجبهة، متكئان، يلوكان قاتهما بشغفٍ وينزفان عرقاً غزيراً. الوجود حولهما مغلّف بسكون مشحون بالتأهّب.
 
في العادة لا يشتد القتال إلا مع حلول الظلام. مع ذلك قد يتم استدعاؤهما بأية لحظة لدعم الخطوط الأمامية. وطالما وذلك لم يحدث بعدُ فلا يزال بوسعهما الاستمتاع بجولة شطرنج.
 
بالأمس تمكن قحطان من هزيمة معاذ، وها هو الثاني يتوعّد، اليوم، بالثأر. قام بحماسٍ إلى حقيبة قحطان ليأتي بصندوق الشطرنج. وفيما يتحسّس باحثاً بين أغراض صديقه، أمسك بقطعة حديدية ثقيلة. أخرجها فإذا هي خنجر كبير الحجم، معتم وبلا غمد. لم يره مع قحطان من قبل. يبدو بدائياً. ليس من ذلك النوع الذي قد يكون فعّالاً في اشتباكٍ ما.      
 
"ما هذا الخنجر؟!"، ضاحكاً.     
 
تكدّرت ملامح قحطان. قام مستنفراً، أمسك بالخنجر ودسّه بعصبية في الحقيبة:        
 
"دعك من الخنجر، بالتأكيد لا علاقة له بالشطرنج!".      
 
في صمتٍ عبوسٍ، عاد معاذ إلى متكئه.    
 
أدرك قحطان بأنّه قد بالغ في ردة فعله. حمل صندوق الشطرنج ومضى ليجلس مقابل صديقه. وفيما يرصّ القطع على الرقعة:     
"أعتذر. لا تزعل أرجوك. هيا يا صديقي، هيئ جيشك وأرني إن كان بوسعك حقّاً هزيمتي. وفي الأثناء سأخبرك بقصة الخنجر وستتفهّمني".     
 
استجاب معاذ بثقل. وبدأ قحطان يقص منذ النقلة الأولى:     
أنا يا صديقي سليل أسرة احترفت النجارة منذ زمن بعيد. جدّي لأبي اكتسب شهرة استثنائية في صناعة البوّابات الخشبية وزخرفتها.. من اختيار الشجرة المناسبة إلى تقطيعها ألواحاً إلى تركيبها وزخرفتها.. كان جدّي أسطورة في ذلك. لم يتعاط مع الأمر كمجرد حرفة، بل كشغف وفن.
     
نَمَت شهرة جدّي إلى أذن عامل الإمام بمنطقتنا آنذاك. استدعاه إلى قصره وأمره بأن يصنع له بوّابة عظيمة الحجم والتفاصيل، بوّابة يسكب فيها كل عبقريته، وأن يُضمِّن اسمه "الشريف" في زخرفتها..      
 
انكبّ جدّي شهوراً ينجز تلك التحفة. أتمّها أخيراً وأبلغ عامل الإمام بأن يرسل من يحملونها إليه. إنها ضخمة وجميلة كما أرادها..
     
لم تمرّ ساعة واحدة على حملهم البوّابة حتى فوجئ جدّي بمداهمة من حرس عامل الإمام. أخذوه معهم في غضب عارم. لم يكن عامل الإمام قد دفع شيئاً من ثمن البوّابة. وهناك اكتشف جدي خطيئته: لقد كتب اسم الرجل على البوابة هكذا، دون أن يسبقه بتوصيف "السيّد"!.      
 
لم يلتفت أبداً لمبررات جدّي بأنه لم ينتبه للأمر، وأن هذا الخطأ نتيجة سهوٍ لا أكثر. أمر بسجنه. ولمزيد من الإذلال، أمر أن يؤتى بعُدّة عمل جدّي، وكانت فقط فأساً ومطرقة صغيرة الحجم وإزميلاً. أرسلها إلى حدّادٍ محترفٍ ليذيبها ويعيد تشكيلها قيداً رباعياً متيناً، قيداً لليدين والقدمين، تربط بين أجزائه سلاسل حديدية قصيرة: من لا يحترم أسياده كما ينبغي، فحقّه أن يعرف ما هو الجحيم!     
 
تلك الهندسة الرهيبة للقيد أجبرت جدّي على البقاء متكوّراً طوال بقائه في السجن. له فقط أن يجلس. إن أراد الاضطجاع، فكالعرجون القديم، أما الوقوف ففي حدود الركوع. كان أبي حينها صبياً صغيراً. ذهب مع جمع من الأهالي لاستعطاف عامل الإمام لإخراج جدي من السجن، دون جدوى..
     
مضت شهور على هذه الحال، إلى أن جاءت ثورة السادس والعشرين من سبتمبر. وصلت شرارتها إلى منطقتنا فهبّ الأهالي، مفعمين بسخط متراكم لعقود، إلى قصر عامل الإمام. تمكّن من الهرب، وتمكّنوا من الاستيلاء على قصره وإخراج السجناء. 
   
كان ذلك القيد الجحيمي قد أوغل في لحم يدَي جدّي وقدميه، وأكثر من ذلك في روحه. أوّل شيء فعله إثر خروجه، أن حمل ذلك القيد بنفسه إلى حدّاد متمرّس في منطقة بعيدة. هناك أعاده إلى صيغته الأولى: فأس ومطرقة صغيرة وإزميل. ولثلاث سنوات، انهمك جدي يعطي أبي الدروس الأهم في فنّ الأسرة المتوارث. مات بعدها متأثراً باعتلالات السجن..
     
ورث أبي الفنّ بجدارة. وظلت أدوات جدي أثيرة لديه، لم يستبدلها بأخرى. لكنّ الزّمن سرعان ما تغيّر، وتغيّرت معه المعطيات. لم تعد البوابات الخشبية المزخرفة من متطلبات الناس. اقتنع أبي بذلك على مضض، وافتتح ورشة حديد بسيطة. لم يعد الفأس مهمّاً. بقيت المطرقة والإزميل، لم يتخلّ عنهما مطلقاً، وبالطّبع أضيفت للورشة أدوات أخرى لازمة.      
 
جئت إلى الدنيا في وقت متأخر. ورغم أن أبي بقي مصرّاً على أن أركز كلياً على تحصيلي الدراسي، فإنني تعلّمت منه الحدادة بإصرار مني. كنت أستغل إجازاتي الدراسية الطويلة بأن أنهمك في العمل مع أبي وعمّاله. تلك الورشة كانت مصدر عيشنا.      
 
قبل سنتين، وفيما كنت في الجامعة، جاء الرجل المكلف من الحوثيين بالإشراف على منطقتنا إلى الورشة، محفوفاً بمرافقيه المسلحين. طالب أبي بمبلغ باهظ كمساهمة واجبة في ما سمّاه المجهود الحربي. رفض أبي. مطرقة جدّي في يده اليمنى، والإزميل في اليسرى..
      
اخترقت صدره رصاصة فهمد فوراً. نهبوا كل شيء عدا المطرقة والإزميل.
    
في جنازة أبي حملتهما معي: المطرقة والإزميل. فكّرت بأن أدفنهما معه، إلى جواره، وكنت حسمت أمري بأنني سأثأر. لا أمتلك بندقية، فقط دمي الذي يفور في عروقي، والمطرقة والإزميل!     
 
حسناً إذن. لن أحتاج إلى بندقية. لن أدفن المطرقة والإزميل مع أبي.      
 
انتهيت من دفن أبي وانطلقت فوراً إلى ورشة حدادة كبيرة يمتلكها صديق لأبي في منطقة قريبة. هناك أذبت المطرقة والإزميل وأعدت صياغتهما إلى هذا الخنجر الذي رأيت. بعد ثلاثة أيام شرب هذا الخنجر دم قاتل أبي حتى ارتوى. لكن دمي ظل على فورانه. انطلقت فوراً إلى هنا، هذا الخنجر رفيق طريقي الوحيد.    
 
انتهى قحطان من سرد قصّته وقد بلغ الأثر في معاذ مبلغه. قحطان نفسه كان يحشرج بين جملة وأخرى، بين نقلة وأخرى. الكثير من قطع الشطرنج، من اللونين، مجندلة خارج الرقعة. وهذه المرّة الأولى التي لم يغضب معاذ حين نبس قحطان:      
 
كش ملك.. انتهت اللعبة!
 
 

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر