فاجئني أحد المعلمين في المدرسة ذات يوم حين سألني عن معنى اسمي. عدت إلى المنزل وسألت أبي عن معناه، لم يكن يعرف، سألته عن سبب اختياره. قال أنه اختاره إعجاباً بالصحابي «الباحث عن الحقيقة».
تحاملت على اسمي الغريب في المنطقة، وقررت تغييره.
كنت أمشي والمشط الصغير في جيبي، أنظر لوجهي في المرآة الخلفية، وأختار اسماً يناسبني، تنقلت بين أسماء كبار السن: «قحطان، عدنان، بجاش، رزاز، غالب، عثمان، دبوان، قائد، سعيد...إلخ» ولم يعجبني أي اسم. قلبت أسماء الشباب: «مالك، خالد، نشوان، حمود، عبدالله، جميل، فيصل، جمال، نجيب... إلخ» ولم يعجبني أي اسم. قلبت أسماء لداتي وزملائي في المدرسة: «فواز، وليد، رشاد، صلاح...إلخ» ولم يتطابق أي اسم مع الصورة.. أسماء «ما حُمِّد وما عُبِّد» أيضاً كان وقعها ثقيلاً على رأسي.. خضت صراعاً مريراً في اختيار اسمي الجديد، وبالكاد بدأت أفكر باسم «أحمد».
أبلغت أمي وأبي وشقيقاتي باسمي الجديد، وحين كانوا ينادونني به، لم أكن أرد، بدا ثقيلاً ولا يناسبني أيضاً. أحد أبناء المنطقة تزوج من منطقة أخرى، غير اسم زوجته ونجح. أنا لم أنجح. رأيت وجهي في المرآة: لا يتطابق مع شكلي غير الاسم القديم. لا فكاك منه: «خيبتي ولا مليحة الناس». لذا طفقت أبحث عن معناه.
ذهبت إلى معلم كبير، درس في مكة المكرمة والمدينة المنورة، كان ضليعاً باللغة والفقه، أعطاني تفسيرات غير مقنعة، عن السلام والسِّلم والسَّلم وعن الإفراد والتثنية. في اليوم التالي كان المعلمون يتناقشون في المدرسة: «الأسماء لا تعلل» سمعتهم يقولون، نطلقها للتمييز بين شخص آخر، ولهذا إن وجدنا معنى لاسم شخص قد لا يتطابق مع المسمى، وشرع المعلم الكبير يستشهد بأسماء لطلاب: «رشاد ضال ومضربة، نجيب غبي، جميل مشاخورش آكل أنا وهو بعار» المرء يكتسب اسمه قبل أن يكتسب شكله وطباعه، أسماء الأشخاص مجرد علامات لا علاقة لها بالمعنى.
ظلوا أياما يتناقشون عن الاسم، عن تحريم بعض «المشايخ» إطلاق بعض الأسماء على بعض الأشخاص؟. أحد المعلمين الضالعين باللغة الإنجليزي يؤكد العكس، أن لكل اسم معنى، لا يستعصي عليه اسم، بعضها يقسمها إلى مقطعين تارة بالعربية وتارة بالإنجليزية والعربية معاً، أو بالانجليزية وحدها كما حدث عندما ذكروا له اسم ردمان، اسم يتكون من مقطعين red بمعنى أحمر و man بمعنى رجل، معناه الرجل الأحمر، سحنة وجه ردمان حمراء بالفعل. إذن ما معنى اسمي؟ سَل أصلها soul وتعني الروح، man وتعني الرجل: الرجل الروح، ولكنه استنتاج بلا معنى، قد يكون روح الرجل.. طلعت روحك..
ذهبت إلى عَشَّاب كبير، درس الطب العربي في زبيد، وعلى دراية بعلم الفلك والأبراج، طفق يتحسس معصمي ويفتح عيني، ويتحدث عن الطباع: البارد والحار، والسوداوي والصفراوي، والبلغمي... عرفت فيما بعد أنه يعالج على طريقة بن سينا. العشاب زوج خالة أمي، أي بمقام جدي، يحسب رقماً لكل حرف من اسمي واسم أمي، ثم قال بأن بأن بُرجي الدلو.
الرجل الذي استطاع تغيير اسم زوجته، جاء معها إلى العشاب لمعالجة طفلهما الذي لا يتوقف عن البكاء، قام العشاب بحسبة أرقام اسمه واسم أمه، ثم تحير، قبل أن يذكر الزوج الاسم القديم للمرأة، تبين للعشاب أنها لم تتخل عن اسمها أبداً في قرارة نفسها، طلب منهم أن يغيروا اسم الطفل.
هل يؤثر الاسم على الطباع؟ هل تغيير الاسم ينقلك من حالة إلى حالة؟ أعتقد أن الأمر حيلة لإحداث تأثير نفسي في المسمى وعائلته، تماماً كالاستراتيجية المعروفة في العلوم العسكرية، إطلاق اسم على عملية عسكرية فيستعصي الحسم أو تطول مدة العملية، يجري بعدها إطلاق اسم جديد لتحرك جديد ممتد من العملية نفسها، لكسر الملل عند أفراد الصف وترميم الثقة في الحاضنة، وقبل ذلك الإيحاء للخصم أن عملاً جديداً أقوى من الأول فتتزعزع معنوياته.
للأسف، أنا لست عملية عسكرية، أو محل تجاري. أنا إنسان. كلما رأيت نفسي في المرآة، أجلب الأسماء كلها ولا ألقى اسماً يتطابق معي غير هذا الذي أطلقه عليّ أبي، وهكذا كنت موقن قبل أن أتخيل تلميحات من العشاب أن أثر تغيير الاسم لجلب الحظ وهم، وأن معرفة المعنى لا يغير من النصيب شيئاً، وبعد أن عرفت أن الأسماء مجرد علامات.
صحيح أني أُعجبت وقتئذ بشخصية الباحث عن الحقيقة، ولكن الاسم لم يعجبني. هذه قناعتي، ومنذ ذلك الوقت، كلما مر يوماً تزيد، ولا أنصح أي شخص بتسمية طفله بهذا الاسم مالم يكن في السعودية أو الخليج، كي لا يعيش حياة الباحث عن كل شيء: الحقيقة، الفرصة، العمل، وغير ذلك.
ولكن لحظة..
قبل فترة، سمعت من شخص سيء الحظ، كان اسمه لبيب فغيره إلى ناجي، قال بأنه خرج ثالث أيام عرسه للعمل مع أحد المقاوتة كي يشتري علبة سمن عندما كان اسمه لبيب، أما بعد تغيير الاسم إلى ناجي: «بيس مثل الرز». يبدو أن الإنسان مثل العملية العسكرية، أو المحل التجاري. إذن سأغيره.
لم آخذ المرآة كي أستطيع إيجاد اسمي الجديد، كي لا أتوهم أنه لا يوجد اسم يتطابق مع شكلي غير الاسم الذي عرُفت به، عزمت على ذلك، جربت الأسماء كلها، ثم كتبت: سلمان عبدالباسط..
اقراء أيضاً
شقة "لوكس"
القصة التلفزيونية في اليمن
والذين لا يسألون الناس