يكفي أن تملك منبرا إعلاميا، وشرذمة من الأبواق الصوتية، لتكتسب شعبية في دولة عربية ما، بصرف النظر عما تفعله وما تملكه من ثقل معرفي أو وزن مادي على الساحة.
قبل أن تغزو الطفرة الرقمية العالم العربي، كانت الشعبية كصنعة، محصورة في الشخصيات السياسية بدرجة أساسية، وبوسائل تقليدية محتكرة لا يستطيع العامة الوصول إليها أو تملكها، ولم يكن أمام الأغلبية منهم سوى التماهي مع ما يسمعونه من دعاية تسيطر من خلالها السلطة على أدمغتهم، مجهضة أي محاولة مستقبلية للتفكير الواعي.
أدّت أمية المعرفة دورا كبيرا في صناعة شعبية الوجوه الحاكمة، إذ جرى التعامل مع الضخ الدعائي الذي تطلقه أجهزة السلطة، باعتباره حقيقي لا يمكن التشكيك به، حتى بدأت الصحافة المستقلة والحزبية تمارس هذا التشكيك الذي ألقى حجرة مهمة في بركة الفكر الآسنة، ولم يكن أمام السلطة حينها غير أن ترسم خطوط خضر وحمر لما هو مسموح به وما هو غير مسموح.
وإذا كانت السلطة صنعت شعبيتها من أجهزة الإعلام الرسمية التي تحوزها مع أنها ملك الشعب، فالأحزاب السياسية مارست الصناعة، من خلال ما توفر لها من أدوات صحفية وإن كانت محدودة وغير مرحب بها من الجانب الرسمي، وفي كلا الحالتين تكاد الصنعة تكون محصورة في المنظومة السياسية.
مع اندلاع الثورات العربية أواخر العام 2010، طفت المنصات الاجتماعية على سطح ملتهب، حجبت فيه السلطات الأصوات المناوئة، للحفاظ على روايتها بشأن ما يجري، وهذه المنصات التي أدت دورا مفصليا في مسير الثورات، كانت في نفس الوقت ترسم مرحلة جديدة لصناعة الشعبية، وبروز أسماء جديدة انحصرت في المجال السياسي اتساقا مع اهتمامات تلك الفترة، قبل أن تشمل مجالات أخرى في السنوات التالية.
حاليا، أصبحت منصات التواصل الاجتماعي، المصدر الأول في صناعة الشعبية، خاصة مع ما تتسم به من انتشار آخذ بالازدياد، وسهولة في الكتابة والتفاعل، والأهم من ذلك، أنها مشاع فكري لا تستطيع السلطة احتكاره، أو مصادرته، وإن تمكنت من ممارسة التضييق في بعض الحالات، على أن هذه المنصات للأسف أسهمت في زيادة شعبية وجوه لا وزن لها، عدا عن كونها شخوص تجيد التهريج أو استدرار العواطف، أو الخروج عما هو مألوف للفت الانتباه.
وإذا كانت الأمية هي الآفة التي اتكأت عليها وجوه السلطة في صناعة شعبيتها في الماضي، فإن التفاهة هي الآفة التي اتكأ عليها الباحثون عن الشعبية والشهرة في زمن الطفرة الرقمية، الزمن الذي آذن بزوغه بزوال شعبية الوجوه الحاكمة وتفنيد أكاذيبها، وفي نفس الوقت صناعة شعبيات أشخاص آخرين.
لقد أصبحت منصات التواصل، وسيلة لصناعة رموز جديدة مهما بدت تافهة وهذا يحدث كثيرا، ووسيلة لإسقاط نفس الرموز كلما اتضحت ضحالتها وخداعها للجمهور وهذا نادر الحدوث، لكن الأسوأ يكمن في أنها صنعت شعبية لوجوه تمارس الدجل والتضليل وتفتي في كل مجال، وتأثيرها يصل إلى شرائح واسعة، وهذا يعني الحاجة إلى جهود منسقة للتصدي لهذه الشعبية بعد أن غدت نبعا عاما، ينهل منه الصالح والطالح على حد سواء، وبؤرة تثبت الأيام ضررها الذي يفوق نفعها بكثير.
اقراء أيضاً
سطا الحوثيون على قريتي... فصرنا غرباء
الجريمة في ظل اللادولة
موسم الهجرة القسرية