الشارع مزدحم بالشتاء، ضممت معطفي حولي وأخذت اراقب العابرين لعل الوقت يطوي نفسه، قبل أن تقترب مني إحدى الفتيات بسؤالها الموجع. لم يعد أحد يستغرب العدد المتزايد من الأيدي الممدودة في صنعاء. يحدث أن تتفق كل أطراف النزاع على هدف ما، وقد اتفق الجميع على تجويع المدينة وأهلها!..
تركتني الفتاة واتجهت لاسناد ذراع رجل عجوز يقف على الناصية المقابلة. يبدو أنه والدها، هل كانت تراقبني، تسآلت بقلق لحدقاتها المعلقة علي، قبل أن أدرك خطأي. لم يكن لتواجدي أي أهمية، وكان تحديق الفتاة تجاهي، تبادل للنظرات مع سائل آخر قريب من عمرها. ربما اجادا اخفاء ذلك عمن حولهم، لكنها التقطت ما يجري، هل كانا يعرفان بعضهما مسبقاً، تسألت قبل أن انفي ذلك، فدهشة الاستكشاف الخجولة بينهما دلت على صدفة ساقها الرصيف إليهما..
مع مرور الوقت لاحظ العجوز كيف كان الشاب يتودد للفتاة بترك مساحة كافية لتسبقة في السؤال، مثل هذا الأمر قد يثير الحمية والغضب في قلب الأب، لكن هذا لم يحدث، يبدو أن تقلص الأمعاء يجعلنا ننظر إلى المشاعر بطريقة مختلفة، أكثر بساطة ونقاءاً، ربما؟!..
لعل العجوز حدّث نفسه مستبشراً بعد أن ظن أن الحرب لم تترك فينا سوى غول البحث عن الذات، وما يراه من الشاب ليس سوى تضحية مقابل الآخر، فاستحق ابتسامة العجوز الذي أشار له بالاقتراب بعد تركه يد ابنته. بدى الارتباك على الفتى وهو يتجه للجلوس مع العجوز على إحدى دكات الرصيف، وبدأ الاثنان حوار طويل..
وجدت ما يشغلني ورحت أتخيل نوعية الحديث الذي قد يدور بينهما، لم يكونا غريبين على الرغم من أنه لقائهما الأول، فالظروف القاسية تنسخ طبائع البشر وملامحهم بطريقة مذهلة..
بدى العجوز جاداً، توجب عليه ذلك، حتى يتأكد من جدية الفتى، فلم يكن يسمح بكسر قلب ابنته!..
_العجوز: ما أسمك يا بني؟!..
_ الفتى بخجل: سلطان؟!
_ العجوز: منذ متى وأنت في هذه المهنة؟!..
_ الفتى: لم يمض وقتا طويلا، كنت أمارسها بشكل متقطع، قبل أن تجبرني الحرب على امتهانها!.
لعل العجوز امتعض من عدم خبرة الشاب، أو تشكك من جديته في العمل، فمثل تلك المهنة لا تقبل الهواة، لكن لا بأس، سيمنحه فرصة أخرى!..
_العجوز: هل تخرج وحيداً؟!.
_ الفتى: للأسف، لقد خرجت معظم عائلتي للشارع، فالجوع كما تعلم يضاعف طاقتنا للعمل!.
بدت الخيبة على الفتى إلا أن العجوز ربت عليه بوجه منشرح، على الأقل لن يكون متزمتاً ويمنع ابنته لاحقاً من الاعتماد على نفسها والخروج للعمل. لعله قال ذلك لنفسه قبل أن يعود لاستكمال استجوابه: "هل من صاحب عاهة في الأسرة"؟! ..
لم يكن العجوز فظاً في السؤال أو طماعاً، قد تكون العاهة ميزة، على الرغم من ابتلاع الجمعيات الخيرية وصناديقها غالبية ما كانت تعطي لهكذا حالات، إلا أنها ما زالت تمنح القليل كل حين، والذي سيكون مناسباً لتيقن العجوز من ثبات دخل العائلة التي سيرتبط بها..
انتابتني مشاعر غريبة حين لاحظت وقوف الفتاة المتلهف على ما قد يُنتج الحوار. من الصعب أن تجد قلب يقبل بك بكافة عيوبك!!..
لا بأس، كانت الفتاة أصغر وأكثر سذاجة لتتمكن من تمييز ما يرسله الفتى إليها. لا أعتقد أنه وجد في وجهها الباهت أي نقص، كنت على ثقة بأنها وعباءتها المغبرة في عينيه أجمل وأرقى من عارضات بيوت الأزياء العالمية وما ترتديه تصميمات!..
قد يكون أقصى ما قد تمنحه لنا الحياة تشابهنا مع أحدهم؛ تقاسمنا الاهتمام وإن كان شعورنا بالحاجة هو ما يشغلنا. سيكون عبور الحياة أسهل حين يكمل نقصنا الآخر ..
للأسف، لم أتمكن من معرفة نهاية الحكاية، فقد توجب عليّ إنهاء طريقي، دون أن اقطع خيط بصري عن الثلاثة حتى اختفوا، شعرت بالحنق للحظات قبل أن أعاود ابتسامي، لماذا الإحباط ومازال بإمكاني رسم ما أريد من نهايات؟!، سيتزوج الإثنان في عرس بسيط وينجبا الكثير من الأطفال السعداء، مثل تلك النهاية كانت مناسبة جدا لحاجتي!.
لن يجد الزائر لصنعاء أشد إيلاماً من المتسولين الذين ملأوا شوارعها، ونظرات الحاجة والعوز التي طُبعت بقسوة عليهم. يجد البعض منا في تخيل حوارات وقصص مرحة طريقة مناسبة للهروب، إلا أن اجادة خلق النهايات السعيدة بين الحين والآخر لا تنجينا من وطأة حقيقة الواقع الذي نحياه!.
اقراء أيضاً
في رفقة شبح ديمقراطي غربي
الرسام المجرم
"البالة".. تغريبة اليمني