تزيد نسبة المكتئبين بشكل مهول، شباب في أول العمر يخرج عن طور العقل، شابة يعرف عنها الرزانة تترك بيتها وتمشي أمامها مغيبة الحس، حالات انتحار في أوساط كبار جبلوا على الدين، وحالات قتل يومي داخل عوائل مختلفة، حالات كانت تصلح لمرويات سردية من خيالات الكتاب، لم تخطر على بال يمني لو لم تكن الضحية تسبح في الدم.
أب يقتل بناته، ابن يخرج مع المليشيا ويقتل أباه، ثم نبحث عمن يفسر ظاهرة هذا التزايد ويبحث عن حل.
ينفطر القلب كمدًا على الذين اضطربت عقولهم، اليافعون الذين أصيبت طموحاتهم بالرصاص فلم يحتملوا الأوضاع، ليجد المحظوظ منهم، من يجمع له تبرعات من الناس للذهاب به إلى المصحة العقلية.
كلنا بحاجة إلى جلسات عند أطباء نفسانيين، قيل حتى السوي يحتاج إلى ذلك إن أراد قليلا من الاسترخاء في وضع متوتر يبعث على الكآبة الجماعية، يقال أن تلك الجلسات اعتيادية في العالم المتقدم، نحن أيضًا، تقدمت طموحاتنا حتى سقطت بالهاوية، فسيق المحظوظون إلى تلك الجلسات.
من سبب ذلك؟ لم لا تكن الحرب؟
ببساطة، لأن من يتسبب بذلك، تكتنفه السعادة، ومع أن المرض به يشعر أن الآخرين هم المرضى، وهذه أسوأ حالات الجنون، لقد جلس نيرون على تلة يتتعتع بالسكر ويقهقه وهو يعطي أوامره لإحراق روما، وأمه قلب النار.
المكتئبون البسطاء ليسوا عدوانيين، الجنون الدامي غالبًا ما يأتي من دهاليز السلطة وقصور الطغاة، وفي أبسط نماذج للجنون الضاحك، ذلك الذي جاء به توفيق الحكيم في مسرحية "نهر الجنون"!.
لقد شربوا جميعًا من النهر..
في حالتنا، أسالوا نهرًا من الدم ومازالوا يشربون..
الحرج إذن عليهم، هل نقول علي صالح وعبده الحوثي من بدأوا بصناعة النهر؟
دعونا عن المجانين الواقفين على جنبات نهر الدم اليمني، المقصد أن الحرج والإثم هم حملته، لا حرج على أسرة اكتأب أحد أفرادها، لا خجل من أمر الهوس الناجم عن قتل الطموح، لا خجل قبل الحرب، فكيف وقت الحرب؟
*
قبل الحرب قرأت كتاب "عقل غير هادئ"، سيرة ذاتية للأمريكية كاي ردفيلد جاميسون، هذا ما عزمت على كتابته وقتئذ عن الكتاب ومن الكتاب الحائز على جائزة نيويوركر: سيرة جريئة ومحزنة، لا أعتقد أنها ستكرر مطلقًا، سيرة امرأة عادت من بين لجج الهوس الاكتئابي "الاسم العلمي للجنون".
"المشكلة الطبية في معالجة ذهان الهوس ليست عدم وجود أدوية فعالة، بل يوجد، الأسوأ فوق ذلك ونظرا لقلة المعلومات ورداءة الاستشارة الطبية، الخوف من العار والرهبة من العواقب على المستوى الشخصي، لا يقوم أكثر المرضى بالبحث عن علاج، الهوس الاكتئابي يشوه الأمزجة والافكار، يحرض على تصرفات مروعة، يدمر أساس التفكير العقلاني، يحدث تآكلًا للرغبة والعزيمة على الحياة، إنه مرض أصله بيولوجي، ومع ذلك يشعر الشخص بأنه سيكولوجي عندما يجربه، إنه مرض فريد لأنه يمنح ميزة وسرورا، ومع ذلك يجلب في يقظته معاناة لا يمكن تحملها، وتؤدي إلى الانتحار.
أنا محظوظة لأني لم أمت"!.
أدمنت جاميسون عقاقير الاكتئاب، كل ما تبحثون عنه، عن الجنون موجود بهذا الكتاب من ناحية علمية حتى الأدوية وأسماء العقاقير، قرأتها أكثر من مرة، لأن السيرة تحضك على البوح وهذا ما نحتاجه.
المعلومات المكثفة في سياق السرد آسرة، كما أنها سيرة مطعمة باقتباسات كانت تستشهد بها الكاتبة لكُتاب تأثرت بهم مثل هيوغو وولف: أبدو أحيانًا نشيطًأ ومبتهجًا وسعيدًا، أتكلم أيضًا أمام الآخرين على نحو معقول تمامًا، ويبدو كما لو أنني شعرت أيضًا أن الله يعلم بحالي الذي تحت جلدي، ومع ذلك الروح تحافظ على رقادها المميت، والقلب ينزف من ألف جرح".
اقراء أيضاً
شقة "لوكس"
القصة التلفزيونية في اليمن
والذين لا يسألون الناس