أتذكر ذلك النهار وكأنه حدث البارحة؛ وقفت "نعمة" أمامي بقامتها القصيرة المنحنية وجسدها الهزيل قبل أن تمرر يدها على ظهر كفي: "وما فعل لنا عفاش يا بنتي؟! امسكي يدي وشوفي فضله عليّ" !!. لم أتخيل أن ألمس كف بمثل تلك الخشونة، وتحوي ذلك القدر الهائل من الشقوق..!!
كانت تلك "نعمة" العاملة في المدرسة الحكومية منذ عشرون عاما، والتي علّقت حلم توظيفها على صدرها عام بعد آخر، حتى اكتشفت أن سنوات عمرها تجاوزت الحد المسموح للحصول على "وظيفة عامل"، فاضطرت لاختلاس بعض وقت من "دوامها الرسمي"، الذي لم تتلقى عليه سوى الوعود، لتتأكد من سلامة أوراقها في الخدمة المدنية، بعد أن استبدلت حروف "نعمة " غير المحظوظ، باسم ابنتها.
وتمر الأيام، ليصحو حلم "نعمة" مرة أخرى، وقد ضمت لملف أوراقها حلما، اعتقدت أنه على وشك التحقق حالما تتم ولادة ثورة حالمة، بشّرَ بها فبراير. لا أعلم أين "نعمة" اليوم؟ ولماذا انبعثت ذكراها، بعد سنوات ضاعفت من أعمارنا، وضيقت مساحات ذاكرتنا؟!..
إنه فبراير، لا شيء يعيد لي "نعمة" سواه. بعد أن خاطهما خيالي وجمعهما برباط شديد الوثاق. فبراير شهر الصراع السنوي المتكرر؛ الشبح ذو الشجون، ونزاع اطرافه المدافعين عنه والكارهين؛ من يُلقي عليه تبعات الفشل، ومن يُمجد لنجاح لم ينله غير بضعة أفراد؛ ولم يُترك للزمن أخذ دورته الطبيعية، ليلقي عليه حكمه دون مجاملة أو محاباة، فهو الوحيد من له حق انصافه أو ادانته..
لم تتوقف سخرية البعض من ثورة فبراير، التي لن يختلف اثنان على نسخ أهدافها؛ مظاهراتها؛ أو حتى بعض هتافاتها عن ثورات سبقتها بأيام، متجاهلين الحالة السياسية الراكدة والمحبطة لليمني الذي وجد في تجارب غيره ثغرة؛ فسحة من ضوء قد تفيد في حلحلة وضعه البائس، دون ان يتنبه الساخرون إلى أن التجارب الإنسانية، وعلى الدوام، كانت مجال للتدوير والتصدير منذ بدء تدوين التاريخ البشري؛ "قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَ?ذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ"..
كانت ساحات فبراير واسعة. واسعة جدا لتحمل بين جنباتها "المزيف" الذي كان ينتظر فرصة لابتلاع مساحة أكبر مما تصوره الشهر الغرّ؛ واستقبلت "الانتهازي" الذي شمر عن ذراعيه وشحذ حنجرته بخطب رنانة ألهبت حماس الثوار ومطامعه التي تُمنيه بمقعد حكومي ذو سلطة..!!
كما كانت ثورة فبراير مركب النجاة لمن شعر بأن سفينة الرئيس السابق على وشك الغرق. لن يجد ذلك "الانتهازي" أفضل من ارتداء شخصية ثائر لصعود مركبا جديدا يعطيه مكانا بارزا، خاصة مع حاجة الثوار- الساذجة- لسياسي شرب حتى ارتوى في دهاليز الدولة القديمة ومكائدها..
ماذا عن الغالبية العظمى التي احتوتها الساحة؟!
كان إطلاق صفة "الثورة الشبابية" جائرا على فبراير. فقد كانت ساحاتها تمتلئ عن بكرة أبيها بكافة الأعمار والأحلام. ستجد فيها الفتى المراهق، وتقابل الكهل وهو يصدح بأمنيات لن يتذوق ثمارها، في الغالب، وقد اكتفى بالإيمان بنصيبه الذي سيناله ابناؤه وأحفاده.
فتحت الساحة أبوابها للجميع، بغض النظر عمن غادرها بعد ذلك؛ سواء امتلاء بمكاسبه الشخصية، أم الآخر المنهك الذي تمنى لو أنها تأخرت حتى يحمل غيره ثقلها على كاهله؛ أم ذلك المكسور الذي جبر خاطره بقوله تعالى: "أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ"..
لكن ماذا بشأن من تمسك بالبقاء خارجها؟!..
ربما كانت معضلة فبراير أنها لم تتخطى الساحات بالقدر الكافي. مرت على أحلام "نعمة" سريعاً، مربتة على يديها المشققة قبل أن تعود لملجئها بين جدران الساحات، وقد فتر حماسها عن شحذ همة "السلبي" الذي يراقبها من نافذة القنوات الإعلامية طيلة يومه، وهو يرى أن الدعاء والابتهال أقصى ما يستطيع تقديمه للثورة من تضحيات..
لم تستطع الساحات استدعاء الفئة الرافضة لها بعد تعبئتها المشحونة، واشاحت بوجهها عن الفئة غير المبالية التي مارست حياتها في انتظار التغيير السهل الذي لن يكلفها شيء. ولعلها محقة في ذلك، فأي عاقل لن يدفع ثمن شيء لم يطالب به من الأساس، لتمسي فبراير- مع مرور الوقت- شماعة تُعلق عليها كافة الشرور والآثام، دون أن تخفي الثورة عجبها لمن تقّبَل فساد دولته ثلاثون عاما أو صمت عنها، ويطالبها في ذات الوقت، وهو يلقي عليها تهم التخوين والعمالة، بمفاتيح الجنة..
أخطأت فبراير حين لم تسلط الضوء على سبتمبر، بالقدر الكافي. فابتعاد المسافة الزمنية بينهما، جعلها نوعاً ما في غفلة عنه، وسلب منها معرفة الدروس الأولى التي كان ينبغي أن تعطيها لنفسها. لا يعفيها ذلك، كما لا يعفي من كانوا أكثر دراية بالتاريخ والشأن اليمني، والذين لم يجاهدوا لإيصال أصواتهم إلى الساحة.
إلا أن ثورة فبراير، "بسمعها الثقيل"، لم تدّعي أنها البديل المناسب أو الجمهورية الجديدة. ولم يكن حلمها بدولة مدنية كفرا بسبتمبر، يستوجب كل ما نالته من عقاب. بقدر ما كانت محاولة منها لتجديد الحركة الراكدة في المياه التي أمست آسنة بأمراض متوارثة عبر عشرات السنين..
هل يحق لنا محاسبة فبراير، ومحاكمتها، لعجزها عن تحقيق أهدافها، على الرغم من أنها فعل بشري غير منزه عن الخطأ، خاصة وقد صدها ما لم تقوى على حماية نفسها منه: مطامع الأحزاب وحسابات منفعتها؛ الدولة العميقة بتشبثها برجالها؛ مخاوف دول الجوار واتهامها لفبراير بتبعية خارجية لا تنوي خيرا بالمنطقة؛ بالإضافة إلى مخابرات العالم التي سعت لتغيير ديمقراطي مناسب لضرورات خنوع ما قد تنتج عنه الثورة في صناديق اقتراعها...؟!
نخطئ، حين نُغفل رغبة الانتقام التي استولت على بعض ثوار فبراير، وجعلتهم يبحثون عن مكان لصب ميراث غضبهم وأحقادهم، والذي لم يجدوا له أفضل من رجال الدولة القديمة، بلا استثناء، غافلين عن الكراهية المجتمعية التي ستنتج تجاه مناقضتهم للمبادئ التي لقنتهم إياها ثورتهم ونادت بها..!!
لا أحد ينكر أن خطيئة فبراير الكارثية تمثلت بركوب الحوثي عليها، والسماح له باحتلال جزء من الساحات وبصوت صادح، وكأنها منحته مغفرة "لم يستحقها" عن ستة حروب وقف فيها ضد الدولة اليمنية. ومثل الحوثي، تخَفّى الكثير من أعداء فبراير بين ظهرانيها، حتى غدت حصان طروادة عاجز، يقاد إلى طريق لم يتوقع في أسواء كوابيسه أن يسير عليه يوماً..!!
هل كان مجيء الحوثي نتيجة فبراير، أم كانت الساتر الذي سرع وعجل من ظهوره- الذي لم يكن خفيا على أي حال؟!
قد تكون تلك هي المعضلة التي يقف أمامها ثائر فبراير السابق عاجزاً حائراً، وقد وقع بين أمرين أحلاهما مر: هل سيكون الدفاع العنيد عن ثورته، وتجاهل سلسلة الأخطاء التي جُرّت إليها، هو ما سيزيح عنه تهمها المؤرقة؟! أم أن التبرؤ منها، وصب لعناته عليها وعلى خطايا صُنّاع القرار ومالكي زمام الدولة في عهد النظام السابق وما تلاه، هو ما سيريح ضميره؟!
ثم؛ أليس تسريع اسقاط الأقنعة، الذي أدى- بالتالي- إلى تعجيل الحرب، افضل من استمرار ارتدائها، وترحيل دفع مستحقاتها لجيل قادم؟!..
ربما علينا، في المقام الأول، طرح سؤال مهم لن يعفي فبراير من الاعتراف بذنوبها، ولن يغير من الواقع الحالي شيئاً، لكنه سيكون أهم ما وصل إليه اليمني بعد معاناة مريرة، سواء كان من أبناء فبراير أم من بقية فصول السنة: هل أنهى ثوار سبتمبر خطر الإمامة، فعليا، لحظة وقفهم إطلاق النار واسكات أصوات معاركهم؟
ألم يتغاضوا عن توغل رجال الإمامة، مجددا، في مفاصل الدولة؟ الأمر الذي اتضح، في وقتنا الحالي، أنه كان استعدادا لعودة جديدة !!..
لعل تهمة نسخ فبراير نفسها، من ثورات موازية، ليس دقيقا، بقدر ما نسخت الأخيرة أهداف ثورة سبتمبر، التي سبقتها بخمسين عاما، وورثت نتائجها بكل اتقان..!!
اقراء أيضاً
في رفقة شبح ديمقراطي غربي
الرسام المجرم
"البالة".. تغريبة اليمني