المتاجرة بمعاناة اليمنيين، ليست محصورة في الحسابات السياسية والعسكرية فحسب، بل تمددت لتشمل الحسابات الإنسانية، من خلال السلوك المهين الذي تتعامل به بعض الجهات الإغاثية والإنسانية مع المواطن في المناطق التي تنشط فيها.
العمل الإنساني أو الإغاثي لا يشترط فيه التشهير وتسويق مشاعر الناس لغرض مادي، وهناك منظمات ومؤسسات تؤدي دورا إنسانيا رائعا لا يمكن إنكاره، بعيدا عن هوس التصوير والتشهير، وسأتحدث في هذا المقال عن لمحة بسيطة عن المتاجرة لمشاعر المواطن اليمني تحت يافطة الإغاثة والعمل الإنساني.
قبل شهرين تقريبا، رافقت مجموعة من الزملاء بعد إلحاح شديد من أحدهم، في زيارة ميدانية إلى أحد مخيمات النزوح التي تقع خارج مدينة تعز، وعلمت قبل وصولنا بلحظات أن الزيارة ستكون تمهيدية لزيارات عمل أخرى ستركز على إعداد فيلم وثائقي عن معاناة النزوح وظروف العيش القاسية في هذه المخيمات، لصالح إحدى المؤسسات.
ستتولى أنت كتابة تصوّر لسيناريو الفيلم، ومن ثم كتابة النص، قال صديقي. أبديت استعدادي لتنفيذ المهمة، وكان لدي تحفظ حول مقترح وضعته الجهة الممولة للفيلم بإبراز مشاعر المواطنين وشكرهم للإتحاد الأوروبي والأمم المتحدة على الفتات الذي يصلهم، والمشاريع التي تمنحهم فرص العمل بين حين وآخر.
تنقلنا بين الخيم المتهالكة، وشاهدنا حالة البؤس التي تخيّم على جنبات المخيّم، واستمعنا إلى قصص مزرية لطرق العيش والإقامة في المخيّم. كانت الوجوه الشاحبة والخيم المهترئة تكمل القصة عندما يتعثر الراوي عن الكلام لشدة تدافع الألفاظ ومحاولتها رسم صورة تقريبية للواقع المعاش.
أثناء العودة، بدأت مخيلتي تفرز المشاهد التي علقت في الذاكرة، ومعها فكرت جليا في الطرق المناسبة لصياغة تصور من دقائق معدودة يتسع لكل هذه المشاهد البائسة، وبدأت أضع تصورا أوليا لهذه المشاهد، لكن القصة انتهت قبل أن تبدأ؛ أبلغني صديقي بتصوّر الجهة الممولة للفيلم وهي جهة لديها مشاريع إغاثية وإنسانية كما أسلفت، وتبيّن أن الفيلم لم يكن لتوثيق معاناة الأهالي وإنما تسويق معاناتهم لإبراز دور هذه الجهة وتسويق مشاريعها لدى المنظمات الإنسانية والإغاثية التابعة للأمم المتحدة.
لا يعاب على أي مؤسسة أن توثق مشاريعها وأنشطتها، لكن ذلك يجب أن يراعي كرامة الإنسان واحترام مشاعره ، وما صدمني في التصوّر الذي وضعته المؤسسة لفيلمها، كان تنفيذ مشهد تمثيلي لأحد المواطنين يظهر سعادته مع أولاده بمشاريع هذه الجهة بعد أن كان يعيش ظروفا قاسية، ومن ثم يقوم بتوجيه الشكر للإتحاد الأوروبي والأمم المتحدة.
شعرت بالصدمة لهذا المطلب المخجل، تساءلت: طالما وأن المشهد ليس حقيقيا، لماذا لا يأتون بكومبارس أو مهرج ينفذ المشهد، بدلا من إذلال المواطن على أداء مشهد يتناقض كلية مع ظروف العيش التي يعيشها؟ هذا التهريج يصعب على إنسان يخوض حربا لتوفير لقمة العيش بشق الأنفس، أن يقوم به، فضلا عن كونه يعد متاجرة بمشاعره بعد تسميمه بوعود قد لا تكون حقيقية.
أفرزت الحرب آلاف القصص المأساوية، ومعها تفرخت عشرات المؤسسات والمنظمات الإنسانية والإغاثية، التي وجدت في تسويق هذه المآسي وجبة دسمة لاستجلاب الدعم، وإيصال جزء يسير منه إلى المواطنين وتصويرهم من زوايا مختلفة بشكل مهين ومن ثم التشهير بهم في منصات التواصل طلبا للمزيد من المال.
عندما تصبح الصورة وسيلة رخيصة لاستغلال ملامح الوجوه، والمتاجرة بما تخفيه من مشاعر، يبرر البعض هذا الفعل، بدعوى التوثيق للجهات الداعمة حتى تتأكد من وصول المساعدات إلى مستحقيها، مع أن هناك فرق واضح بين التوثيق الذي تطلع عليه الجهات الداعمة حصرا، وبين التشهير المهين الذي يطلع عليه الآلاف في مواقع التواصل الإجتماعي أو شاشة التلفزيون، دون مراعاة لما يمكن أن يحدثه هذا الفعل من تأثير عكسي في نفوس هؤلاء المعذّبين الذين يساقون إلى عدسات التصوير لتلقي إهانة تعادل قيمتها أضعاف ما يتلقونه من المساعدات.
المتاجرة في العمل الإغاثي لا تقتصر على بعض المنظمات، الإمارات أيضا تمارس نفس الأسلوب في كثير من المناطق، ولديها قناة محلية يمنية لا يكاد يمر يوم دون أن تذكر في أخبارها الرئيسية المشاريع الإنسانية للإمارات مصحوبة بلقطات مهينة لمن تستهدفهم هذه المساعدات.
ختاما، لهؤلاء ومن سار على دربهم: أحفظوا لليمني كبرياءه، ولا تسمحوا له أن يحني رأسه متذللا أمام عدساتكم مقابل عبوة من الدقيق أو مبلغ زهيد من المال، فإن هانت كرامته عندكم لأنكم بلا كرامة، على الأقل قوموا بتمويه صورة الوجه، حفاظا على مشاعر ملايين الناس ممن تصلهم هذه الصور وتثير مشاعر الكراهية لكم لا الإعجاب بصنيعكم كما يخيّل إليكم!
اقراء أيضاً
سطا الحوثيون على قريتي... فصرنا غرباء
الجريمة في ظل اللادولة
موسم الهجرة القسرية