قبل أيام، أعلنت صحيفة دير شبيغل الألمانية، فتح تحقيق بخصوص تورط كلاس ريلوتيسو أحد صحفييها في تأليف قصص ملفقة في المجلة بلغ عددها 14 قصة، وبعد إقرار ريلوتيسو بالفضيحة وتقديم استقالته، بادر طواعية بإعادة جوائز كان قد حصل عليها من مؤسسات صحفية بينها محطة سي إن إن الأمريكية.
هذا الخبر أو القصة، شكّل صدمة للمطبوعة الألمانية التي بادرت بالتحقيق في نشر هذه القصص رغم وجود فريق المجلة متخصص بتدقيق المحتوى، وبين موقف الصحيفة الرافض للانحراف المهني وإقرار الصحفي بالذنب واستقالته، لا يزال عالمنا العربي يضج بالأخبار الكاذبة والملفقة من قبل مؤسسات إعلامية دون خجل، أو حتى تراجع عن الخطأ إذا ثبت، فالاعتذار في الإعلام والصحافة العربية أمر نادر الحدوث.
في بلاد العرب نعاني كثيرا مما يمكن تسميتها بالدكاكين الإعلامية، التي من خلالها يتم صناعة وإنتاج المحتوى وفقا لتوجهات معينة، ومن ثم توزيعه ونشره على المواطنين، وكل وسيلة إعلامية لها نصيب في هذا العمل سواء كانت قناة مرئية أو إذاعة مسموعة أو صحيفة مطبوعة أو موقعا إلكترونيا، وكثيرا ما تتصدر السلطات الحاكمة صناعة هذه الدكاكين، وتبنيها وتسويقها.
الدكاكين الإعلامية في المرحلة الراهنة، لم تعد مقتصرة على السلطات الحاكمة، فالأحزاب السياسية والمنظمات والشخصيات الممولة خارجيا، هي الأخرى تملك دكاكين إعلامية، ولاتختلف عن الدكاكين الرسمية من ناحية الأداء، إذ إن معظمها تخوض معارك نفسية مع الخصوم دون أدنى التزام بالمعايير المهنية والأخلاقية، فإذا وجد المال فما سواه لا يستحق الاهتمام؛ المال يعلى ولا يعلى عليه!
الأمثلة على الانحطاط الإعلامي في عالمنا العربي كثيرة، ولن نذهب بعيدا في الإتيان ببعضها، ففي الأيام القليلة الماضية، تداولت الدكاكين المقربة من الأنظمة العربية، فيديو لمتظاهرة فرنسية وهي تطالب متظاهري السترات الصفراء ألايخربوا فرنسا كما خرّب العرب أوطانهم، وتداولت نفس الدكاكين قبل ذلك فيديو للرئيس الفرنسي ماكرون يعتذر فيه للأمير محمد بن سلمان عن موقفه بشأن قضية خاشقجي، أما الحقيقة فكانت أن المتظاهرة الفرنسية كانت تخاطب الشرطة بحرقة وتدعوهم لعدم قمع المتظاهرين، وبالنسبة لماكرون فلم يعتذر لبن سلمان وإنما وبخه لأنه لا يستمع إلى نصائحه، لكن هذه الوسائل استمرت في نشر الرواية المكذوبة للخبرين، على الرغم من معرفتها بأن الجمهور يعرف أنها كاذبة!
يتجه الإعلام العربي بخطوات متسارعة نحو الانحدار، بما ينزع عنه صفة السلطة الرابعة، خاصة مع اتساع سيطرة الأنظمة والمخابرات على المؤسسات الإعلامية، وصولا إلى السيطرة على الصحفيين وتوجيههم، وهنا أستحضر ما أفرزته صفقة القرن من تسريبات نشرت مطلع العام الجاري لضابط مخابرات مصري وهو يوجّه شخصيات إعلامية تحتل حضورا كبيرا في وسائل الإعلام المصرية الخاصة، بتبني الحديث عن موضوع القدس انطلاقا من توجهات سلطة الانقلاب، والتركيز على ضرورة السلام مع إسرائيل.
لقد أفرزت الحرب مئات الدكاكين الإعلامية في المنطقة العربية، مجهزة بمئات ممن وجدوا في الفضاء الإعلامي، وسيلة مربحة لصناعة أمجادهم المادية، على حساب المعايير المهنية، والمصلحة العامة، وما يبعث الانشراح في النفس أن المواطن أصبح يعي جيدا خلفية بعض هذه الدكاكين، وأحابيلها وتوجهاتها السياسية، ومدى صحة الأخبار والقصص التي تنشرها، وهذا يتطلب بلورة الوعي الشعبي إلى مشروع لإعادة الاعتبار للسلطة الرابعة والتصدي لإعلام الدكاكين
اقراء أيضاً
سطا الحوثيون على قريتي... فصرنا غرباء
الجريمة في ظل اللادولة
موسم الهجرة القسرية