" سيكون ذَكَر.. أشعر بذلك. تعلم الامهات بما في ارحامهن دون الحاجة لزيارة طبيب وأشعة سونار. ما يشغلني هو أيجاد اسم مميز له!" ..
لم أحاول عرض اسم "شادي" على السيدة الموشكة على الولادة. فالبعض لا يفضل النهاية المحبطة لأغنية "أنا وشادي"، التي تبقي فيها السيدة فيروز في حالة بحث محمومة عن صديقها الضائع، قبل أن تصاب بقسوة نسيان إعتاد على التلاعب بمصائرنا ..
هتفت المرأة فجأة: "عبدالصمد"، نطقت حروف الاسم ببطء. لن يكون "صمودي" سيئا، بالنسبة للحيادية المطالبة به هوياتنا، بعد أن أصبحت قيمة الإنسان وعلامة تمييزه تعتمد على بضعة حروف في البطاقة الشخصية، يعاقب عليها المرء أو يكافئ، يَقتل أو يُقتل لأجلها. هكذا قالت "الطائفية" التي استشرت فينا، لكني لم أعطي تعليقي. فاسم المولود يُحدد لحظة ولادته كما كانت تقول أمي.
ابتعدت عن الأسماء التي تناثرت في أرجاء العيادة، والتي لن ترضي المولود القادم على أي حال، ليشدني عقلي وهو يهمس باستغراب: "مازالوا ينجبون الأطفال؟!"
لم أنكر عليه سؤاله. مازال البشر لغز عصي على الفهم: كيف لمن يعيش حالة حرب- وان كانت بغرابة حرب اليمن- أن يبت بسهولة بقرار مصيري كالإنجاب؟!
"لا يجدر بنا التشاؤم". هذا ما نردده بثقة زائفة، ونحن نبادل بعضنا الابتسامات الجوفاء، مخفين الحقيقية التي تصرخ فينا: ما الذي يدعو للتفاؤل وإنجاب المزيد من الأطفال، وقد ألقينا بالآلاف منهم في محارق حروب لم يستطع الكبار تجنيبهم إياها؟ كانوا من الوقاحة بالتفاخر بتعليق صورهم في الشوارع، وانتقوا المدارس بسخرية قاتلة لإقامة احتفالات ابتلاع الجبهات لهم !..
لا أعلم إن كان سن الطفولة أكثر حكمة واستقراء للمستقبل مما نعتقد؟! أتذكر دهشتي وأنا أحاول فهم محاولات البشر المستميتة للبحث عن علاج، ولهفتهم لأدوية تطالب بالمزيد من "الوقت" الذي لم يكن سوى محطات انتظار مؤجلة لا تخلو من معاناة. فالجميع في نهاية المطاف يموت. وليست لحظة الميلاد سوى ايذان بموت جديد.
لن تكون الأفكار الطفولية مناسبة للطرح أمام امرأة موشكة على ميلاد موت جديد. لن يختلف أثر وقعها عن بيت الشعر الشهير لأبو العلاء المعري والذي اصطفاه من ضمن مئات أبيات شعره المتفردة ليكون شاهد على قبره: "هذا ما جناه أبي علي وما جنيت على أحد".
لم تكن ظروف المعري مختلفة عما تعانيه الشعوب الواقعة تحت نيران حروب هذا العصر. لعله لم يتذوق البراميل المتفجرة أو الصواريخ. لم يسمع بما تفعله الألغام بضحاياها، أو بالأشلاء التي تتبقى من أجساد وارواح المعتقلين. لكنه لم يكن بعيداً عن فوضى الانقلابات والتكفير والآخر المضاد، بشعارات لا تختلف عما يردده محاربي اليوم.
لم تدغدغ تلك الثورات المعري، ولم تُحّمّسه ليبدي تجاهها أي نوع من التعاطف. على العكس من ذلك، خرج صوته منددا مستنكرا، قائلا بأن المطامع الحقيقية لهؤلاء هو الوصول إلى سدّة الحكم والتمتع بملذات الدنيا ..
ليس ذلك وحسب، اختار "رهين المحبسين" حل صارم لمعالجة مشاكله مع عصره الرافض لأفكاره، برفض مقابل لجناية كان من الممكن أن يرتكبها بأنجابه طفل يرى أنه سيخوض معركة حياة لم يُستشر في دخولها ولم تؤخذ موافقته عليها، فاعتزل العالم بمطلق ارادته منذ عامه الثلاثين حتى انتهاء حياته في الثمانين، وقد وصف تلك العزلة بأبياته:
أراني في الثلاثة من سجوني،،
فلا تسأل عن الخبر النبيث
لفقدي ناظري ولزوم بيتي،،
وكون النفس في الجسد الخبيث..
الحرب سجن إضافي لسجون المعري. محبس ضيق، مهما حاولنا تجاهله أو الخروج منه، تخنقنا قضبانه الغليظة التي وقعنا جميعاً رُهناء لها وتحت اقامتها الجبرية. لعل الدعوة للاعتزال والتوقف عن المجازفة بارتكاب جرائم إنجاب أجيال جديدة، سيكون العمل الوحيد ذو القيمة الذي يمكننا إنجازه بين حدود هذه القضبان.
ما أن بدأت فكرة دعوتي ترسم نفسها، حتى جذبتني كف المرأة الغريبة لتضعها على بطنها. لم أحب يوما التصرفات البلهاء للأمهات. فما المثير في تجول كائن غريب تحت جلدك وبين امعائك؟! لم أكد اسحب يدي حتى توقفت فجأة؛ هل كانت قدم الجنين من حاولت اختراق الحجب بيننا أم أنها كفه؟!
ما الذي تريده هذه الكف الرقيقة التي لا ينقصها العزم؟! للحظة راودني شعور غريب أكد لي معرفة تلك الكف بما يدور في خلدي، ولم تكن لمستها سوى محاولة لمنحي بعض من ثقتها في الغد. راقني ما توصل إليه خيالي الذي وجد حل بسيط للخروج من مأزق الأسلاك الشائكة لتشاؤمه.
مازال بإمكاننا الحب، والبحث عن أسماء مواليد جدد، تحمل ما لم نحمله من إرادة وثبات. يجبرك هذا الإحساس أن تكون متفائل بالإكراه، وينسيك الحرب لبعض الوقت.
فخطيئة النسيان البشري قد تكون أحياناً ميزة إلهية بشكل أو آخر ..
اقراء أيضاً
في رفقة شبح ديمقراطي غربي
الرسام المجرم
"البالة".. تغريبة اليمني