عندما يصل الإنسان إلى مرتبة متقدمة في التصوف، يحصل على الخرقة الخضراء. تلك الخرقة تغني صاحبها عن لذائذ الدنيا ومغرياتها، لذا يعتزل الناس ويزهد عن مشاغله ومشاغلهم.
الحلاج شذّ عن القاعدة، رأى الفساد يحيط بالناس فرمى الخرقة الخضراء واحتك بهم، حذره الأقطاب والمريدين من عاقبة ما فعل، وبالفعل كانت العاقبة وخيمة، كانت مأساة استقبلها الحلاج برضى داعيًا بالمغفرة لأولئك الذين يقطعون أطرافه فوق الصليب.
الحلاج فكرة، والخرقة الخضراء رمز، ولم يكن الرمز مشاعًا لمن هب ودب، قلة فقط يصلون إليه، ليس لعدم توفر دهون الطلاء وعلب الرنج وقتئذ، ولكن لتكن تلك الخرقة ميزة لأولي الأرواح المتفردة.
من الصعب الإقرار أن الخرقة مجتزأة من رداء النبي، قماش النبي كم وار كي يصل إلى المتصوفين حتى اليوم..
مرة كان الشيخ الجفري أمام جمع غفير من الناس، كان يلف رأسه بعمامة، سلسل ذلك الرداء وكيف ورثه واستقر على جسده، ذكر اسمه ثم اسمًا آخر، ثم توالت العنعنة، عن فلان عن فلان، كان يسرد دون أن يلتقط نفسه، إلى أن وصل إلى النبي محمد، وسط انذهال الجمهور المصفق..
كان واضحًا، يريد أن يظهر مباركًا بالانتماء ومتفضلًا بعمامة النبي على المنتسبين لآل البيت، وغير راض عن الأتباع الأدعياء الذين يسبون أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام. الرداء الذي يظن الجفري أنه ورثه من النبي لم يكن أخضرًا وهذه هي الخلاصة..
الجفري يحسب على الصوفية ومن آل البيت، مع الفارق الكبير بينهما: بإمكان أي منتسب لآل البيت أن يكون صوفيًا، وليس أي صوفي يمكن أن يكون من آل البيت. هذا ليس موضوعنا، الموضوع ببساطة هو اللون..
منذ انتفاشة مليشيا الحوثي وقيادتها لمسيرة الدمار الهائل، اتخذت اللون الأخضر شعارًا لها، وفي كل مناسبة دينية تجبر من يقيمون تحت سيطرتها على دفع إتاوات، تسلب تجارًا وتنهب آخرين، تصرف مما استلبته من خزينة الدولة، تجمع حلي وأقراط وخواتم كتبرعات من النساء المصدقات بعَتَه المليشيا، كل ذلك في سبيل تزيين الشوارع المدمرة بالأقمشة الخضراء المقطعة، ومسح الجدران بالطلاء الأخضر، ومحاولة طمس الأقفاص الصدرية لجموع الجياع العراة بالاخضرار الكاذب، وفي زمن الحوثي ظهرت الإبل في شوارع العاصمة مزدانة بهوادج مغطاة بستائر خضراء، لتهرول بالزمن إلى بادية قريش بسرعة الجمال الهائجة.
وعقب أي مناسبة دينية، تظهر عمارة عالية، سيارات فارهة، ومشاريع تكَسُّب لقيادات الحوثي..
نحترم معتقدات الناس، ومن حق أي كائن تعس أن يبحث عن مناسبة ويحولها إلى عيد، وقد حولتنا المليشيا إلى بؤساء تحت ظل لؤماء أوغاد، حتى أولئك الذين يحضرون مهرجانات المليشيا يستحقون البحث عن مزغل لفرحة مؤقتة.
مولد النبي ليس بدعة، كنا نحتفل به في القرية لنسمع الأناشيد ونصغي للدروس ونشاهد المسرحيات، كانوا يغرسون فينا النقلة من الظلمة إلى الفجر، المساواة، الوقوف أمام الطغيان بشجاعة.
لم يكن العالم متطورًا ولم نملك الهواتف بعد. أَثُم بعد أن عرفنا كل شيء يمررون علينا خزعبلاتهم؟. وهذه ليست مشكلتنا معهم، المشكلة تكمن في العنف الذي انتهجه الحوثيون، البلطجة، النهب، السلب، القتل، التفجير، ثم وضع فوهات البنادق على من تبقى كي يؤمنوا بما يريدونه، ويصدقون أن الله اصطفاهم على الخلق.
لا علاقة بين الجفري والحوثي من ناحية الألوان وطرق نشر آرائهم ومعتقداتهم للناس، والتعايش أيضًا، المسافة بينهما شاقة، من جنوب الجنوب إلى شمال الشمال، ورغم ذلك ينتسب الاثنان إلى "آل البيت".
وهذه ليست مشكلة.. نحن في القرن الواحد والعشرين، عصر التعايش وقبول الآخر، ومشكلتنا مع الحوثي اللون والعنف.
حوّل الحوثيون اليمن إلى غبراء يلفها البارود، تغلغلت النار في خضرتها المزعومة، حتى في الصيف تشرب المطر ولا تستطيع مقاومة اليباس..
إذن، لماذا الأخضر؟
قيل إنه "العلم" الذي اتخذه الأئمة في اليمن، وقيل إنه القات، وعلى الأرجح إنه التقليد.
تدمن مليشيا الحوثي في اليمن تقليد حزب الله في لبنان، عبدالملك يرتدي الخاتم المفضض في بنصره تقليدًا لنصر الله، يطيل مدة الخطاب وأحيانًا يردد بعض الجمل التي يرددها حسن نصر الله، أطلقوا على جماعتهم اسم أنصار الله قريبًا من حزب الله، كان التقليد لافتًا. عند حزب الله ينتشر اللون الأصفر، هكذا ينطبع شعار المكونات في الذهن مثل شعارات الشركات الاقتصادية والمصانع، ترك انطباع ذهني عبر اللون. ومن باب الذكاء الحوثي وكي لا يكتشف الناس تقليدهم لحزب الله اتخذوا لونًا آخر غير الأصفر فاختاروا اللون الأخضر..
بالرغم من تشابه الرؤى والأهداف بين حزب الله وجماعة الحوثي؛ إلا أن هناك فارقًا كبيرًا في دعامة الانتشار: التعايش..
في أي مهرجان لحزب الله يمكنك أن ترى فتاة ترفع الشعار الأصفر وهي ترتدي بنطال الجينز وفانيلة بلا أكمام، يمكن أن تجد مسيحيًا متحمسًا لنصر الله، يمكنك أن تجد فنانة بلا مذهب تغني للمقاومة في الجنوب، أما جماعة الحوثي فلم تتعايش مع أحد، طردت من يختلف معها في صعدة، هجرت السلفيين من دماج، وطرت يهود اليمن إلى الأراضي المحتلة، قتلت الفنانين واختطفت من يستمع للأغاني، ولم تكتف بمهاجمة اليمنيين، بل تعدت ذلك لمواجهة فصائل من داخلها، مثل المواجهات بين أتباع عبدالملك ومحمد عبدالعظيم.. يتضاربوا هم وأرجلهم..
اقراء أيضاً
شقة "لوكس"
القصة التلفزيونية في اليمن
والذين لا يسألون الناس