ربما سقط سقف قبل قليل على رؤوس ساكنيه. إخوة أصحابي يُقتلون والقذائف العشوائية تنهمر على منازلهم.
استشهدت امرأة، طفل، مات صديقان ربما كان رابط الوعي يجمعهما أكثر من الترف الذي ألف بين أنكيدو وجلجامش. والفارق كبير: الصديقان قتلا، ولم يبق أحد للبحث عن عشبة الخلود في جبال اليمن التي طاح الحوثيون في تبابها وقفافها.

لا يسعك إلا أن تكون مصغيًا في حضرة شباب "الحقب"، لقد عرفتهم في 2011 أثناء ثورة الشباب، المثاقفة الثورية وطرح الأفكار جعلت الكثيرين ينظرون إليهم بإعجاب، لقد جذبوا الكثير من الصحفيين والمثقفين. لم يحدث أن وجدنا، أو على الأقل وجدت، منطقة تصدر مجموعة من الشباب الواعي دفعة واحدة، ولكن الحقب بدت لي كما لو أنها خارج البلاد، وتخيلت أن شكلها يختلف عن الطبيعة اليمنية تمامًا. الذين وجدتهم يتحدثون عن هيجل، يتناقشون في الفلسفة، يدلونك على كتب لم تسمع بها من قبل، يحمسونك على الاطلاع، ويوقدون شغف المعرفة.

 كانت تلك المرة الأولى التي أعرف اسم منطقة الحقب، وحتى ما قبل ثورة 2011، كنا قرويين نهاب مناقشة بعض الأفكار التي ينظر لها البعض بأنها متطرفة في التحرر، مجموعة من الحواجز المحرم علينا الاقتراب من قداستها. في أول مرة تسمع لهؤلاء الشباب ستجد نفسك مترددًا: سيفسدون ما تحمله. لكن سرعان ما يشعر الإنسان أنه واحد من مؤيدي أفكار المجموعة إن لم يكن واحدًا منها..

كما كانت تعجبني تلك اللام الزائدة في لهجة همدان الحقب، وتلك القاف الجهورية من صالح سعيد، ولم أعرف جغرافية المنطقة، لكن أبنائها لا شماليون ولا جنوبيون. يمنيون فحسب، بارعون في تشرب الوعي بشكل جماعي، وحين تكتشف التوجه الأيديولوجي لشخص منهم تستغرب حين ينتقد شخصيات من ذات التوجه عندما تحرف مسار الثورة نكاية بحزب آخر، ينظرون إلى الوقائع بإنصاف؛ لذلك تجدهم محاطين باحترام الجميع، من الإصلاح إلى الاشتراكي، إلى الناصري، عدا أولئك أنصار علي صالح والحوثيون أيضًا، فإنهم يرونهم كما يرون الثورة كلها، سببًا في سقوط سلطتهم.

في الخيمة، ومن أبناء الحقب، تجد اشتراكي عميق إلى جوار شقيقه الإصلاح، بنفس التجانس وبأفكار متقاربة، يبهرانك حينما يتناقشان بعقلانية ومنطق خاليين من العدائية المضمرة والتوقف عند أحداث الماضي للتزود بالمخاوف، الماضي تجربة نستفيد من أخطائها فقط.
جمعتنا الخيمة والحلم، الشوارع ونحن نتظاهر ضد علي صالح، وتنشقنا الغاز المسيل للدموع. شابان من أبناء الحقب ضخما البنية، كانا يدرسان في الجامعة ويعودان للخيمة التي تعج بالمرتادين من الأكاديمي البارز إلى عضو أمانة في حزب، إلى صحفي كبير، إلى روائي، إلى شاعر، إلى مراسل تلفزيوني، إلخ. لا يشعرون بأي تفوق على الآخر، ولم تشعرهم البنية الثقافية أنهم من سلالة مقدسة، لذا كان لابد من اختيار الشابين الضخمين لنشعر بالمساواة، العزيز محمد المقبلي أطلق عليهما تقريبًا: الجناح الأمني لحركة 15 يناير.

في الخيمة عرفت نجيب سرور وديستوفيسكي، وأعدادا قديمة من مجلات قديمة وأخرى جديدة.
وكما عزز أبناء الحقب دوافع الاطلاع والشغف المعرفي، وكانوا أول دفعة ـ تأتي من منطقة واحدة ـ محصنة بالوعي ومذهلة لمن يقترب منها، فقد كانت أول اكتشافي لتنوع اغتراب اليمني. من هذه المنطقة عرفت أن هناك مغتربين يمنيين في دولة خليجية غير السعودية، ومغتربين في أوروبا، أحدهم كان يتصل عبر الفيديو لرواد الخيمة من حماسته للثورة.
هذه المنطقة تدفع ثمن الوعي، كما تدفع بعض المناطق ثمن اللاوعي..

عدم اكتمال حلم الثورة، حولت بعض أصحابي إلى مغتربين، وتكفلت الحرب بتشريد البعض الآخر.
من الصعب أن أتخيل الصديق همدان الحقب، وهو عضو في مؤتمر الحوار، وموسوعي طموح، وقد نزح إلى مأرب ولم يستطع رؤية طفلته في أول الأمر، لكن الحقيقة أبشع من الخيال. أما صالح سعيد فيتصل بي من غربته ومازال محافظًا على مزاجه، يشتم من طعن حلم الثورة وتلك الشخصيات التي أساءت لنا، وكل مرة أقول له: ستنتهي الحرب ونعود.
لم تنته الحرب..

ومع التقدمات الأخيرة للجيش اليمني والمقاومة الشعبية، تم طرد الحوثيين من الحقب، لكن المليشيا تمركزت بعيدًا ثم بدأت بالقصف العشوائي، وما زال أبناء المنطقة بلا سند حقيقي يعضد مقاومتهم..
حتى الآن نسمع أنين الموجوعين وهم ينقلون أخبار الذين يرحلون من قصف الحوثي، صديق يستشهد ابن عمه، وآخر تستشهد خالته، اثنان من الأصدقاء يرحلون، طفل، امرأة، وما يزال القصف على الحقب مستمراً..