بدأت التصرفات الغريبة لبطارية الطاقة الشمسية تحذرني من قرب انتهاء عمرها.
كيف لمصنعي بطارية يفوق سعرها ???$، أن يجعلوا من عمرها الافتراضي بضعة أشهر؟! (كان هذا السعر قبل أقل من عام. لا أعلم إن تضاعف اليوم، أم بقي على ثباته، مكتفياً بانحناء الريال تحت قدميه؟!)..
حاولت تذكر قواعد الجمع والطرح لمعرفة الثمن الجديد، لتتهاوى على رأسي صور ظلال الشمعة التي كانت تحولني إلى وحش، لا يخيف سوى نفسه، عندما أمر من أمام مرآة...! محال أن أعود لتلك الحالة، وإن تطلب الأمر استرضاء البطارية بالرقص حولها بطقوس شعوذات قديمة.
يحدث أن تتذكر فجأة؛ بعض النكبات التي كان عقلك قد قرر اخفائها، لتسير بك الحياة بأقل قدر من الخسائر. وقد عادت لي بعضها وأنا قابعة أمام البطارية التعسة: لقد قطعت خدمة الكهرباء عن شعب بأكمله لأكثر من أربعة أعوام !! فُرض على الشعب اليمني العودة للقرون الوسطى أمام مرأى ومسمع من العالم، دون أن يهتز له طرف !! ..
أيُّ عار لحق بالعالم، نتيجة ما وقع، ويقع، على هذا الشعب؟! وأيُّ إنسانية سقطت في حضيض لا مبالاته !..
ربما بالغت في تقديري السابق لمعنى الإنسانية المفترضة. وليست منظمات العالم سوى خدعة كبيرة، وحسابات السياسة هي المحرك والوقود الذي يسيرها حسب ما تقتضيه حاجة الوقت الراهنة، وما تدعيه من قيمتنا، كبشر، لا يعنيها مطلقاً !!.
خير دليل على ذلك؛ الحروب والمجازر، التي سبق ووقعت في رواندا وافغانستان والعراق، وفلسطين المحتلة من قبلها. نزاعات أدار لها العالم ظهره وتجاهلها، وكأن لا نصيب لدول العالم الثالث في الحق بحياة آمنة!!..
أصاب بالدهشة، حين أسمع بأرقام التقارير التي ترفع عن المساعدات الإنسانية المقدمة لليمن...! والواقع المحيط لا يرصد سوى حكايات مأساوية، لم تخلو معظم أيام اليمني منها..!!..؛ أين تذهب تلك المساعدات ومن المستفيد الحقيقي منها؟!..
برغم الإحباط الذي أصابني، وأنا أحاول محاكمة العالم وإنسانيته المشكوك في وجوهها المتعددة، إلا أني تنبهت لنقطة مهمة، أستطيع التباهي بها، أو خداع نفسي- سيان !..
فبرغم ما حل بنا، إلا أننا أثبتنا قوتنا. لا أعني معنى القوة برفع الأثقال أو سحب قاطرة بنزين تنتظر الأمر الالهي لدخول صنعاء !! نحن أقوى شعوب العالم في قوة الصبر والتحمل. صبرٌ اعتدناه، حتى اخشوشنت جلودنا وقلوبنا. لكن المؤسف، هو مقاسمة أطفالنا له، حتى أصبح هو الواقع بالنسبة لهم !!..
كيف لنا اقناعهم يوماً، بعد انتهاء الحرب- على فرضية انتهائها وهم في طور الطفولة- بوجود حياة آمنة، لا طلقات نيران فيها؟ كيف نُعّلِمهم العد على الأصابع، دون أن تكون المقابر، التي تفتح كل يوم، هي وسيلتهم التعليمية في الحساب؟..
قد يستسيغ أطفال اليمن الطعام، بعد نسيان امعائهم لطعم أوارق الشجر، لكن تركهم للعمل الذي أجبروا على مزاولته، وتنازلهم عن سلاح اتقنوا التصويب عبر فوهاته لعودة سخيفة لساحات اللعب، لن يكون بالسهولة التي نتصورها.
فالوقوف في طابور المدرسة الصباحي، وتأدية تحية العلم بعيدا عن زوامل الحرب واناشيده، ستعيد لأذهانهم الطوابير الطويلة، التي وقفوا فيها بالساعات والأيام تحت حر الشمس ولفح الريح البارد، من أجل الحصول على كيس دقيق، مُهدى لهم من المنظمات الدولية، قارب تاريخ صلاحيته على الانتهاء، أو ربما تجاوزه..!
لا داعي للتشاؤم. واشكروا الله على الكأس الفارغة التي لم تكسر بعد. سيأتي اليوم الذي يوضع فيها أولئك الأطفال على قوائم "المنظمات الإنسانية"، لينالوا منحا، تنسيهم ذكريات رفاقهم الذين اُهدروا في الجبهات، وتؤهلهم لخوض الحياة مجدداً، بعد استكفاء حكومات العالم المستفيدة من تجارة الحروب.
لن يضيف التفكير في بعض الأمور، سوى حمل جديد، ومشقة لا فائدة ترجى منها. الأجدى بي، حالياً، تركها ونسيان العالم الذي تخلى عنا، لأتفرغ لبطاريتي الشمسية، والبحث عن مهندس شاطر يعطيها قبلة حياة، تنعشها بضعة أشهر أخرى ..
اقراء أيضاً
في رفقة شبح ديمقراطي غربي
الرسام المجرم
"البالة".. تغريبة اليمني