تتضاءل فرص التغيير الحقيقي كلما جثم على السلطة مستبد، وتصبح الحرية سجينة وراء أبواب تحتاج إلى دماء تضرجها، لأيام، أو لأسابيع، أو حتى لأشهر، وكثيرًا ما تكون سنوات!
كل الآفاق مسدودة، لا مجال للتأوه ولا التأفف، وإن فعلتَ، فإنّك كتبتَ على نفسك الفناء، وسُترسل رسالةٌ إلى ذويك من أقرب مشرحة؛ لاستلام جثتك التي دهستها سيارةٌ في الشارع الفلاني، أو طلقة رصاص زائغة بالقرب من الحي الأسود، أو كنتَ ضحية عِراكٍ في الحارة البيضاء، هذا سبب وفاتك، كما تفيد رسالة المشرحة، وتلك مشيئة النظام، وإملاءات الأجهزة ذات الصّلة!
حتى هذه الأساليب، تُعد متقدمة للغاية، يُعمل بها حين يكون المعني بكَ في قمة نشوته وسلاه، قبل الربيع العربي، كانت الأنظمة العربية تتبادل الخبرات بينها البين، فيما يتعلق بهذا الشأن، ولمّا شبّت الشعوب عن الطوق، وضرّجت أبوابَ حريتها بالدماء، وهدّمت حواجز المستبدين، واعتادت على كافة الوسائل المعمول بها، وتجاوزتها، فكان لها ما أرادت، تساقطت الأنظمة المستبدة كأوراق الخريف، لقد كانت الشعوب في أوج ربيعها النضالي، وفي قمة نشوتها الثورية، فحققت المطلب الأول، الذي يقتضي بدء مسيرة التغيير والتجديد.
لكن مئات الملايين من المنتفضين صُدموا بتبعات إرادتهم؛ فمن كانوا على رأس سلطات البلدان الثائرة، كانوا مجرد أدوات تنفيذية، لا يحق لهم أن يتجاوزوا ما هو محدد من قبل اللوبيات الدولية، والحركات المشبوهة، وشبكة المال والأعمال المسيطرة على التجارة العالمية، ومحددات أخرى تتعلق بالثروات الوطنية، والنزوات السياسية.. فتحولت الثورات إلى موجات من العنف اللا مبرر، وسُلّمت مفاتيح النفوذ للأقليات النّاخرة، سواء على المستوى المذهبي، أو المناطقي، أو العسكري، أو حتى حلقة الوصل التي ما زالت متوارية وهي على دين من رحل!
موجات العنف، واستئساد الأقليات، فتحت شهية الاستبداد من جديد، فعاد بشكليات جديدة، وأساليب قمعية أكبر، فبدلًا من الأجهزة الوقائية والأمنية، أُقحمت الجيوش في معمعة فرض الاستقرار، وتجشمت المؤسسات العسكرية عناء التصدئة المفتعلة، فدفعت الضريبة، واتجهت نحو الشعوب؛ لعكس إراداتها، ومحو أبجديات ثوراتها، ولتأديبها؛ حين طالبت بالحرية وطي صفحات القهر السوداء.. حدث ذلك في سوريا وليبيا ومصر واليمن، ووحدها تونس اقتضت الظروف أن يحل محل من رحل من هم على دينه مع بعض التحسينات الواجبة؛ بما يتماشى مع المرحلة.. طُمِسَ الربيع من فصول شعوبه، وحلّ الخريف والصيف معًا، وتنوعت صنوف الويل والعذاب للثائرين، بإيعاز عربي وبدعم استثنائي من غَلَبَةِ القوم، الذين رأوا فيما يحدث حولهم، تهديدًا لمصالحهم المشتركة مع اللوبيات العالمية والشبكات الدولية، التي تُوجِب عليهم بقاء المنطقة العربية مشتعلةً بالخلافات، تارةً بسوط الاستبداد، وتارةً بنار الحروب البينية المُغذاة!
واقع جديد، أنسى الثوار ما ناضلوا من أجله، وفتح لهم جبهةً جماعيةً من المعاناة؛ ليكتبوا تاريخًا ناصعًا في سجل أساطير شعوبهم الأبية، وفي ذلك قيمةٌ مُثلى لا ولن تنتهِ، ولن يشوبها جنوحٌ للزيغ والضلال... في الإطار، لا يمكن تجاوز هذه المحن المصطنعة بعناية دولية دون معرفة غَلَبَة القوم، وأعني هنا دول النفط العربي ذات الثراء الباذخ، والتي وجدت نفسها ملزمة من قبل الشركاء الدوليين بدعم موجات العنف العسكرية، بوجه رسمي أو بشكل آخر يحمل بصمتهم من خلال اصطناع قضايا تعجيزية وإشكالات ذات أبعاد مستقبلية مهمتها إذكاء حالة الصراع تحت مبررات واضحة مفادها " لِمَ ثرتم؟ دون إذنٍ منّا، ولمّا نجحت ثوراتكم، لِمَ لم تجنحوا إلى هوانا؟ وتكونوا كما نريد نحن ومن معنا!".
هذه غَلَبَة القوم التي تندرج تحت قول الشاعر: وظلم ذوي القربى أشد مضاضة...، ها هي هذه الدول، تعبث بأمن أشقائها بكل ما أُوتيت من قوة، وتحمل في جعبتها مخططات تقويضية مكتملة لصناعة الفشل العام في بلدان الربيع وقد نجحت في ذلك بصورة مؤقتة، وما أظن نجاحها آخذٌ في الديمومة؛ بالنظر إلى المعطيات الحقيقية لأبناء هذه البلدان، النّابعة من صميم مطالبها، ودوافع انتفاضاتها!
الربيع لمن نريد على هوانا، والخريف لمن خالف هوانا، والصيف على كل من لا يهوانا، هكذا تصطلي شعوب الربيع بنزوات الإمارات المكوكية، وبتخبطات السياسة السعودية التي باتت غير واضحة في الآونة الأخيرة، والشعوب المثقلة بهمومها تدفع قيمة النزوات والتخبطات من دمائها وقوتها وكرامتها!
لا وازع، ولا رابط، ولا قيم، ولا قومية، ولا دين، ولا واحديه الخريطة والمصير، شفعت للبلدان الثائرة عند "غَلَبَة القوم"، بددوا كل هذه الثوابت، واتبعوا أهواءهم؛ فزاغوا، وكان أثر زيغهم ما نعايشه اليوم على امتداد الجغرافيا العربية، التي جَنَحَت للظلام، واستسلمت للأسى، بعد جهود مضنية استَجْدَت فيها الشعوب النورَ ليعم أراضيها، لتبدأ على إثر ذلك عملية التغيير، ورحلة النّفس الطويل لشعوب تعاني منذ ثورات طرد الاستعمار.
اقراء أيضاً
تهامة.. خارج الحسبة الحكومية
حكومة بلا أجنحة
مبعوث السلام المستحيل