تسير بك الأيام في الحروب وكأنك في مهرجان كبير مكتظ بالعجائب: أقنعة بشرية برسم البيع؛ سوق مربحة للمشاعر والآلام؛ منصات لتوزيع الأمل الكاذب. ومع كل لحظة- خلال سيرك فيه- يقتطع جزء منك، حتى يصل بك الأمر إلى القبض على تجويف صدرك خشية تجريف ما تبقى منك ..!
بقية من إنسانية، يحاول الغالبية الاحتفاظ بجزء منها ولو بنسب متفاوتة، على أمل التقاء الغد وبنائه بها.
لماذا اشتعلت الحرب؟!
مع مرور السنوات، واختلاط العدو بالصديق، تتحول البدايات الى ضباب خفي. ما تتذكره قد يكون صورة لنوع من العدالة التي حاولنا البحث عنها، أو التمسك بمن أراد نزعها عنوة. قد يكون هذا هو سبب هذه الحرب، أو غيرها. فقد كانت العدالة هي المعضلة التي يبحث عنها الإنسان منذ أن تخلى عن كهفه.
"لا أخلاقيات في الحرب"، كانت تلك العبارة هي التبرير البارد لفيديو مصور لعملية إعدام، قام بها- كما قيل- أحد أفراد قوات الشرعية لأسير جريح من طرف العدو !!
عذرٌ جعلني مصدومة من قدرة النفس البشرية على التعاطي مع مثل هذه الأعمال، مع مشاهدة ممتعة، مسبغة بالمبررات المعلبة الجاهزة ..! هل تخلينا فعلا عن كهفنا البدائي، أم أنه باق فينا من البداية؟
هل يبقى العدو عدوا، في حالة وقوعه جريحاً في الأسر؟ قد يبقى من الناحية النظرية منضماً للمعسكر الاخر، المعسكر الذي نصرخ مستنكرين حتى اليوم اشعاله الحرب، ونسقط عليه جميع الجرائم التي نتجت عنها، من دماء سالت، إلى معاناة نتجرعها، إلى وطن أمسى في مهب الريح ..!
ومع ذلك أتسأل: هل مازال ذلك الأسير مصنفاً ضمن الجنود الواقعين تحت خط الخطر الاحمر، أم أنه جُرِدَ من كل شيء، حتى غدى اشلاء توسلات ملقاة على سفح جبل تنشد العفو والمغفرة؟!
قد لا يملك المقاتل- الذي نفذ الواقعة- القدرة على العفو، وقد وجد في الحرب ما يمنعه عن منحه لأي كان بقية حياته، نتيجة لما شاهده من ويلاتها. غير أن تلك الويلات لم تعطه الحق في تولي كرسي القضاء، ولبس رداء الجلاد، لتنفيذ أحكامه، متجاهلا توسلات الأسير ورجاء زملائه، دون الرجوع حتى لقائده المباشر!!
مثل هذا التصرف، يجعلنا نقف مطولا، ليس أمام جثمان الاسير، بل أمام ذلك الجندي (القاتل)، للبحث عن الدور الذي راق له، وأصبحه...!!
إمساكه بالسلاح مدافعا عن الوطن، لا يمنحه بطاقة إعفاء، تُسقِط عن جرائمه توصيفها الحقيقي، ويجعلنا نلقي على أنفسنا وعليه سؤالا مهما: هل بإمكانك إكمال الحرب، كجندي انضم للقتال، بأهداف نبيلة، وغاية تنتهي ما أن نصل لبر الامان، أم راق لك دور الجلاد وطعم الدماء بكل بساطة؟!
ما الغد الذي تأمل في منحه لليمن وللأجيال التي شاهدتك ترتدي سلاح الوطن، وتُردي القانون تحت قدميك؟! لن يجازف أحد- بعد طلقات سلاحك- انتقادك، أو مواجهة الانتقام الذي أثبت- عملياً وبكل فجاجة- أنه الطريق الأسرع للأخذ بالحق ..!!
لا تقتصر المعارك على ساحات الجنود فقط. الكثير من جبهاتها، بل الأقوى منها، هي تلك التي تقاد بعيداً عن خطوط المواجهات المشتعلة. ساحات حولت بعض كارهي الحرب لقطعان من الوحوش، تسير هائمة، تبحث هي الاخرى عن فرائس لصيدها، بعد أن شاهدت المهرجان المتنوع لمستفيدي الحرب، وقد أمسى الانضمام إليهم طموح، بعد الفشل في هزيمتهم ..!
كل ما أخشاه، أن نقترب من اليوم الذي يتمنى فيه اليمني تأجيل انتهاء الحرب، حتى لا يخرج منها خالي الوفاض، وهو يبحث عن غنيمة، بعد أن أصبحت بقية الإنسانية التي قاتل في يوم ما للحفاظ عليها، مجرد سخافة لم تكن تستحق كل ذلك الحرص ..!
اقراء أيضاً
في رفقة شبح ديمقراطي غربي
الرسام المجرم
"البالة".. تغريبة اليمني