على غير المتوقع، كان مونديال روسيا مذهلاً واستثنائياً؛ تنظيماً، ومتعةً، وأداءً، وجماهيرياً.. أماطت خلاله روسيا اللثام عن وجهها الآخر، الوجه الحضاري المتسم بالجمال الطبيعي والبشري، إضافة للتطورات النوعية التي شهدتها على مدى السنوات الأخيرة، لقد استمتعت كثيراً خلال شهر من التكامل الكروي المتميز في المحفل الدولي عدا تقنية الVAR التي نغصت روح المونديال وأربكت العديد من المباريات، على الرغم من كونها تقنيةً حديثةً تحفظ للآخرين حقهم على الميدان، وما لا يمكن للعين البشرية أن تلاحظه.
شخصياً، لست من أولئك الذين يتابعون الكرة التقليدية، ولا أشجع المنتخبات المتمتعة بالسيطرة الكروية كالبرازيل وألمانيا وإيطاليا والأرجنتين وفرنسا وإسبانيا؛ وهذا ما دفعني لتشجيع البرتغال من البداية، وإلى جانبه كرواتيا؛ بعد أن تابعت مباراتها الأولى ضد نسور نيجريا، ومن بين عرب القارتين، كان المغرب حاظياً بإعجابي الشديد كأفضل المنتخبات العربية أداءً وأكثرها إقناعاً على مستوى التنظيم بشكل عام.
البطولة تميزت بمفاجآت من العيار الثقيل، فالبطل السابق ودع مبكراً، والأرجنتين عانت كثيراً لتصل إلى الدور الثاني، ثم غادرته مع توقعات مسبقة بذلك، وذات المصير حالف إسبانيا والبرتغال وبدور واحد تلتهم البرازيل.. كنّا إذن مع بطولة لا تعترف بأسياد الكرة، فهي تريد أن تكون مختلفة كاختلاف الدولة المستضيفة، التي حقق منتخبها تميزاً ملحوظاً، حين تأهل للدور ربع النهائي للمرة الأولى في تاريخه منذ سقوط الإتحاد السوفيتي، وكذلك فعلت بلجيكا التي تأهلت للمرة الثانية في تاريخها لنصف النهائي وصحبتها إنجلترا وحصان البطولة الأشقر كرواتيا، التي أذهلنا لاعبوها بأدائهم البديع حين قدّموا كرةً شاملةً منذ أول مباراة حتى النهاية، أما فرنسا، فبحسب متابعتي لها فقد تأهلت من مجموعة هي الأضعف في البطولة، وعانت كثيراً أمام استراليا والدنمارك والأرجنتين وبلجيكا، الخط الوحيد الذي كان متميزاً هو دفاعها، عدا ذلك لم تمتعنا فرنسا في أي مباراة من مبارياتها السبع بما في ذلك النهائية، لقد كان منتخباً محفوفاً بالحظ رغم أدائه المتذبذب، وانعدام المتعة فيما قدّمه، إلا إنه منتخبٌ يملك مفاتيح الفوز من أنصاف الفرص، ويتحلّى لاعبوه الأفارقة بقوة البنية والإرادة للقتال حتى النهاية على ذات الرتم !
تأهلت كرواتيا لنهائيات المونديال1998م لأول مرة في تاريخها، حينها كانت فرنسا المستضيفة، وهي ذاتها التي أقصتهم من نصف النهائي، ليحتلوا المرتبة الثالثة في إنجاز غير مسبوق لمنتخب يتأهل لأول مرة بعد سبع سنوات من استقلال بلاده.. بعدها بعشرين سنة وصل المنتخب الكرواتي إلى النهائي بعد سلسلة مشاركات انتهت بالخروج من دور المجموعات.
أبلى الكرواتيون في روسيا حسناً، قدّموا ما يليق بهم كلاعبين يمثلون بلداً يعد درّة قلب أوربا، أمتعونا كروياً، وأذهلونا بجمال بلدهم حين سوقوها للعالم عبر رئيستهم الحسناء، وجماهيرهم المنظَّمين الذين طرزتهم الحسناوات في مدرجات الملاعب السبعة التي لعبت فيها كرواتيا.
لكل بطولة حصان أسود، فاجأ الجميع، وتخطّى منتخباتٍ عملاقة، هذا ما فعلته كرواتيا في مونديال فرنسا 98 والسنغال وتركيا في مونديال آسيا حين فاجأت السنغال العالم بالفوز على البطل فرنسا وعندما حازت تركيا المركز الثالث، وفي مونديال ألمانيا حلّت البرتغال رابعةً وعُدّت حينها حصان البطولة، أما مونديال بافانا الإفريقي فكانت غانا وهولندا، وفي مونديال السامبا 2014 كانت هولندا صاحبت التميز حين حازت المرتبة الثالثة على حساب أصحاب الأرض، أما مونديال الدببة الروسية فكان مليئاً بالمفاجآت السارة بالنسبة لي، فعمالقة الكرة خرجوا مبكراً، باستثناء فرنسا التي لم تقدّم ما يُقنع، وتوجت باللقب!
كان منتخبا روسيا وكرواتيا هما حصانا البطولة العالمية في موسم 2018، حتى إذا ما تواجها، أخذ الكروات الراية، راية الحصان الأشقر للبطولة وليس الأسود، فلا يليق بالجمال الكرواتي إلا هذه التسمية؛ إذ قدّم منتخبهم مبارياتٍ على مستوى عالي من التميز والتفوق التكتيكي، وعلى مستوى الاستحواذ والأهداف الجميلة التي سجلوها على مدار البطولة.
المهم أننا استمتعنا ببطولة نادرة، قلبت كل التوقعات، وكانت الأفضل عبر التاريخ، بكل ما فيها من تفاصيل مثيرة، ونتائج خارج سرب التوقعات، وهزائم تاريخية لدول ذات طائل في عالم المستديرة.
كل هذا لا يمنع أيضاً من القول: أن المنتخب الذي لم يمتعنا طوال المشوار المونديالي هو من اصطاد اللقب، وأن المنتخب الذي حوّل المنافسة العالمية إلى متعة استثنائية، لم تسعفه الحظوظ لمواصلة مشواره حتى النهاية، خسر النهائي وفاز بحب عشاق كرة القدم بعد كل ما قدّمه خلال البطولة.. بالتأكيد أعني كرواتيا، الحصان الأشقر لمونديال روسيا!
من متابعتي للمونديال، كانت بلجيكا أحق من فرنسا للعب النهائي؛ فهي ثانية خلف كرواتيا فيما قدمته من مردود رائع، ومن بعدهما إنجلترا التي تملك جيلاً له مستقبل واعد، ولكن الكرة لها مشيئتها الخاصة؛ حيث تقف إلى جانب التاريخ أحياناً على حساب من ركض وركل أكثر، وهكذا كانت مع كرواتيا خلال المونديال.
طُويت الصفحة الكروية بعد شهر من الركض الممتع، وبدأنا ننتظر مونديالاً خارقاً للعادة في قطر عام 2022، أنتظره بشغف، وأتابع تفاصيل التحضير أولاً بأول؛ حباً في قطر، ولكرة القدم، ولنوعية الحدث في بلد عربي هو الأصغر من بين من استضافوا البطولة حتى الآن.. شكراً كرواتيا على المتعة الاستثنائية، وشكراً لروسيا على التنظيم المبهر، وكل التوفيق لقطر مستضيفة مونديال 2022.
اقراء أيضاً
تهامة.. خارج الحسبة الحكومية
حكومة بلا أجنحة
مبعوث السلام المستحيل