هي ليلة العام عند المسلمين، يتحرونها في العشر الأواخر من شهرهم المفضل " رمضان "، يتهافتون نحوها؛ بغية المغفرة والفوز بها، إنها ليلة تعدل الألف شهر، وتضمن من الخيرية ما يزيد عن ثمانين عاما.
لكنهم يحصرونها بليال معدودة، هي لا تتجاوزها، حتما؛ غير أنها تسري إن أرادوا طوال العام، فتكون مفتاحاً للفلاح، وأداةً مثلى للنجاح الدنيوي والأخروي.. إن أرادوا، ولكنّهم لا يريدون ذلك، فشواهد الفساد تطغى، ومشاهد القتل والتدمير والتشريد تأخذ منهم مساحة شاسعة على مستوى القول والعمل، ثم يبحثون عن ليلة القدر!
بات الواقع على شاكلة التعقيد باعثاً للتذمر، حرب، ومعاناة، وآلام لا نهاية لها، وغلاء فاحش يجتاح كافة الاحتياجات، ويقيد الناس في حدود معينة، لا يتجاوزونها على مستوى الاستهلاك وترتيب الأولويات، وهل هناك أولوية إلا البحث عن سبيل للعيش؟!
كل ما يفتح أبواب الألم يرحبون به، يحتضنونه، يبتكرون به صوراً للأذى، ووحدهم المسحوقون من يدفعون الثمن، ويكابدون مرارة قبولهم بالحياة في ظل وجود لا يعترف بحقهم على أكمل وجه، ورغم ذلك كله تظل ليلة القدر هدفاً منشوداً، لا يحصل عليها إلا من أراد، ومن يريدها يبحث عن وجهها المفقود، الوجه الذي لا تحتويه المساجد، ولا تكتفي التراتيل بالتعبير عنه، ولا لهجات الدعاء ودموع الخشوع!
إنّه وجه له أساريره إن ارتجيناه وتحرينا عنه بدقة، وحققنا به تكاملاً بينه وبين الوجه الآخر.. وجه العبادة الفعلية، المتصل بعباد الله، المتلمس لحاجاتهم، المخفف لمعاناتهم، الصانع لآمالهم، الراسم لابتسامتهم، هذه هي علامات الوجه الآخر لليلة القدر، فمن توفرت فيه فإنّه حازها فعلاً، وآن أن يرتجيها بوجهها المتعارف عليه، صلاةً ودعاءً وخشوعا.
ليلة القدر تعمّر بتلمس ما يحتاجه الناس، بالتخفيف من معاناتهم وآلامهم التي لا تنتهي، بكسوة العيد للأيتام، بإعانة المعوزين، بإدخال سرور على أسر تفتقده منذ زمن، بتوفير حاجة ماسة لمن افتقد عائله ورب أسرته.
تضج وسائل التواصل الاجتماعي بمنشورات متضاربة، منها ما يدعو لإحياء الليلة الأسطورية، ومنها ما يزف التهاني والتبريكات، ومنها ما يبعث بالتعازي والمواساة، وهناك سيل من المنشورات المستهترة بالواقع، تارة بفعاليات هزلية للشهرة والرزنامة الزمنية المستقبلية، وتارة بمهاترات حزبية وعسكرية من أجل فلان وعلان، وحزب الواحة، وأحزاب البنية التحتية.. مؤشرات التعاطي مع حاجات العامة، ومعاناتهم، ضعيفة للغاية، تتضاءل فرص الإحياء وتتلاشى رويداً رويدا، ويبقى الصيت الذائع، لمن ابتكر صورة جميلة، ولمن غنّى لأحلام وراشد، وهناك بيوت تعايش الظلام، وتأكل من بقايا المتخمين، وهناك من ينام على الحصير، وهناك أوجاع مكتومة لا تتجاوز أسوار البيوت تحتاج إلى من يقيم فيها ليلة القدر دواءً وتطبيبا!
المآسي تتفاقم، ورواد المجتمع من سياسيين واقتصاديين وإعلاميين مغرمون بجمع لواصق الشهرة، وطوابع التنافس على حساب أنين المحتاجين وأسى الفقراء والمساكين.. ماذا لو أدخلتَ السرور وأدمعت عيناً من الفرحة؟
ماذا لو أنّك تشبع بطناً جائعة؟ وتعيد بريق وجوه شاحبة؟ وتحيي ليلة القدر في كل ليلة على مدى العام؟ ما الذي سيجري لك لو أنك فعلتَ هذا؟
هذا ما نحتاجه عموماً، ليس بديلاً للعبادات التي تسموا بها، لكنها عامل مكمّل للقبول الأخروي، واكتمال ليلة القدر بتفاصيلها كاملة، وتصبح جامعاً بين القول والعمل، وبين الروح والجسد، وبين الخالق تعالى وخلقه الذين يحتاجون عناية إخوانهم ووقوفهم إلى جانبهم.
ليلة القدر في اليمن، يمكننا أن نجعلها كل ليلة، فمعاناتنا اليومية تتجاوز الألف شهر، وما نقاسيه هنا وهناك لا تختزله مائة عام بصورة يومية.. فلنقم بما تحتاجه الضمائر لتعمر، وما تحتاجه الأرواح لتسمو، وما تحتاجه الأبدان لتكتمل في بوتقة العبادة الأسمى، التي تبدأ بإعمار الإنسان وإحيائه.. وتذكروا دائماً : ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا.
اللهم إنك عفو كريم فاعفو عنّا.
اقراء أيضاً
تهامة.. خارج الحسبة الحكومية
حكومة بلا أجنحة
مبعوث السلام المستحيل