اقتحموها عرايا فكستهم، جوعى فأشبعتهم، فقراء فأغنتهم، أذلاء فأعزتهم، كانوا لا يعرفونها وباتوا يتحكمون بها وبكل ما فيها، تحت تهديد القوة وباستخدام أساليب القهر والتنكيل.
تنعموا ببحرها وسهولها ووديانها وجبالها، عبثوا بكل مقدراتها، واستهانوا ببساطة أهلها، واستغلوا فيهم طيبتهم فجيشوهم حيناً، ومارسوا في حقهم صنوف التجاوزات أحياناً عديدة.
الحديدة، ومن غيرها يمكن أن يكون ضحية بهذه السهولة، وفريسة وقعت بين فكي المليشيا دون مقاومة تذكر إلا من قنابل يدوية لم تصب منهم سوى القليل.. ها هي اليوم قاب قوسين أو أدنى من العودة إلى حضن الجمهورية، بعد مصادرة قسرية استمرت ثلاث سنين وسط آلام ومعاناة لا حصر لها.
بسرعة البرق تسقط ألوية العمالقة والمقاومتان التهامية والجنوبية المناطق الساحلية المتاخمة للبحر واحدة تلو أخرى، كانت الخوخة بداية انفراط العقد، وتلتها حيس، ثم ميناء الحيمة العسكري وقرىً صغيرة على امتداد الساحل وصولاً إلى مديرية الدريهمي ذات الأهمية الاستراتيجية كمفتاح الدخول إلى عاصمة المحافظة.
كل هذه الخطوات محل تقدير وإعجاب، وكل التضحيات المبذولة من أجل ذلك محل فخر واعتزاز، لكن لماذا الساحل دوناً عن السهل والجبل؟!
التنوع الجغرافي للحديدة يجعل معركتها ذات ثلاثة أوجه، سهولة متناهية فيما يتعلق بمعركة الساحل، يساند هذه الفرضية السيطرة الفعلية لقوات التحالف على المياه اليمنية وتحكمها بالملاحة الدولية ومسار السفن فيها، إضافة إلى إمكانية الحسم في وقت قصير بالنظر لفارق العدة والعتاد بين مليشيا الحوثي والقوات الحكومية، وكذا عدم تواجد المناطق المكتظة بالسكان سهّل إلى حد كبير تحقيق انتصارات كبيرة في فترة زمنية قصيرة على مستوى الساحل وصولاً إلى مديرية الدريهمي حيث لم يعد هناك ما يفصل قوات الشرعية عن مدينة الحديدة سوى الدوّار ومطار الحديدة اللذين باتا تحت نيران عربات الجيش الوطني.
الوجه الثاني لمعركة الحديدة يتمثل في السهول والوديان، فالحديدة محافظة زراعية بامتياز، تنتشر فيها آلاف الهكتارات المزروعة بأنواع متنوعة من الفواكه والخضروات والذرة، خاصة الأشجار المعمرة كالموز والمانجو والليمون والنخيل وهذه تُزرع بكثافة كبيرة على مساحات متفرقة شرق المحافظة وشمالها وهو ما يأخذ طابعاً معقداً إلى حد ما؛ فالمليشيا تحتمي بتلك المساحات المزروعة، وتتخندق فيها بأسلحتها الثقيلة، وتقيم فيها معسكراتها الإستقطابية وتعزيزاتها الرافدة لجبهات المواجهة.
غير أن هذه الفرضية يمكن التعامل معها من خلال الضربات الجوية المسبقة وتدخل طائرات الأباتشي عند المواجهة المباشرة، وهذا ما لم يتم حتى اللحظة بالنظر إلى المناطق والوجهة المحددة لمسار المعارك باستثناء الخوخة وحيس كونهما آهلتين بالسكان وذاتي كثافة ملموسة في هذا الإطار، ولربما تتأجل معركة السهل لفترة بسيطة، حيث تراهن قوات الشرعية على استعادة الحديدة المدينة والتي من خلالها يمكن استعادة بقية مديريات المحافظة، وهذه الحسبة العسكرية قد تؤتي أكلها وقد يكون لها مردودها العكسي؛ فمديريات كالجراحي والمراوعة والزيدية تتمتع فيها المليشيا بسيطرة نافذة وتتخذ منها خلفيات تعزيزية لأي تحرك حتى الآن قد تشكل خطراً حقيقياً في حال قررت المليشيا تنفيذ هجمات مركزة على المناطق المحررة في الساحل وهو ما يدعو إلى ضرورة تفعيل جبهة حيس باتجاه الجراحي ومحاولة التمدد باتجاه مراكز المديريات التي حُررت منافذها البحرية حتى نضمن إتمام عملية الحديدة على نحو مستقيم.
أما معركة الجبل فتحمل تعقيداً كبيراً خاصة في مديريتي جبل رأس وبرع وسلسلة الجبال الأخرى المتفرقة التي تنشر فيها المليشيا عدداً من آلاتها وأدواتها العسكرية الثقيلة وهذه يمكن تحييدها من الجو وخلال معارك السهل التي ستفرض حصاراً شاملاً على طرق الإمداد والتعزيز نحوها.
إذن لا تبدو الحديدة إجمالاً لقمةً سائغة، لكن الخطة المتبعة حتى الآن ستسرع من استعادتها بشكل كبير، وسيغلق الباب أمام المليشيا التي استمتعت بالحديدة كثيراً، وشكل نافذوها من خلالها ثروات طائلة حتى أن مشرفهم في زبيد وصل رصيده البنكي إلى 90 مليون ريال خلال سنتين فقط بعد أن وصلها أغبر أدبر لا يملك شيئا، هذا بالإضافة إلى الأراضي المستباحة وحاويات الإغاثة المنهوبة، ومجموعة الممارسات الابتزازية بحق التجار والمنظمات الناشطة هناك.
نحن أمام إغلاق تام لكافة المنافذ التي تربط الحوثيين بالعالم الخارجي، وهذه أهمية الحديدة الاستراتيجية التي جهلتها الحكومة الشرعية والتحالف منذ إعلان عاصفة الحزم، وقد حان الوقت كي تستعيد الحديدة مكانتها بين محافظات الجمهورية المحررة بعد أن تستعيد اعتبارها بإعلانها محررة بالكامل عما قريب.
اقراء أيضاً
تهامة.. خارج الحسبة الحكومية
حكومة بلا أجنحة
مبعوث السلام المستحيل