على طاولة مؤتمر الحوار الوطني، الذي عُقد في اليمن خلال الفترة من 18 مارس/ آذار 2013 وحتى 25 يناير/ كانون الثاني 2014، طرح جنوبيون قضيتهم بما في ذلك المطالبة بالانفصال أو بالحكم الذاتي الذي يشمل التقسيم إلى إقليمين شمالي وجنوبي وفقاً لما كان سائداً قبل إعادة توحيد اليمن عام 1990.
وقُوبل هذا الطرح من بعض النخب الشمالية باقتراح التقسيم إلى أقاليم متعددة بهدف الالتفاف على الإقليمين. فيما جاءت تطورات حضرموت الأسبوع الماضي، لتلامس خيطاً شديد الحساسية متصلاً باليمن من الماضي إلى الحاضر والمستقبل.
نظام الأقاليم
بعد شهور طويلة من الأخذ والرد في مؤتمر الحوار الوطني، استقرت الرؤية على إقرار تحويل اليمن من نظام الدولة البسيطة إلى النظام الاتحادي، وجرى توزيع محافظات البلاد على ستة أقاليم، الأمر الذي دفع رئيس مكوّن الحراك الجنوبي المشارك في الحوار، محمد علي أحمد، إلى الانسحاب، فالأمر بات متعلقاً بـ"وحدة الجنوب"، إذ ينظر قطاع واسع من الجنوبيين المتحدرين من محافظات عدن ومحيطها إلى تحويل حضرموت إلى إقليم منفصل فيها، كخطر على هذه الوحدة، إذا ما أصبح الجنوب، الذي كان دولة قبل توحيد البلاد، إقليمين، وهما عدن وحضرموت.
ويروي أحد أعضاء مؤتمر الحوار، طالباً عدم الكشف عن اسمه، لـ"العربي الجديد"، أن بعض الشخصيات المنتمية للمحافظات الشمالية من قوى وأحزاب مختلفة، لم تكن تؤمن أصلاً بالفيدرالية والتحوّل إلى النظام الاتحادي، وأنها وافقت على التقسيم إلى ستة أقاليم (اثنان في الجنوب وأربعة في الشمال)، وكانت تراهن على أن موقف الجنوبيين الرافض لتقسيم الجنوب إلى عدن وحضرموت، سيؤدي في النهاية إلى إعادة النظر بالأقاليم برمتها.
وتتبنى الحكومة الشرعية، بقيادة الرئيس عبدربه منصور هادي، وأبرز القوى والأحزاب المؤيدة لها، مشروع الأقاليم، وتعتبره الحل الأمثل لأزمات اليمن وتحدياته المتراكمة منذ عقود، كما تأمل عبره بإنهاء المركزية وسيطرة قوى النفوذ في المركز على الأطراف وطي صفحة هيمنة جزء على آخر.
وجرى توزيع الأقاليم وفق اعتبارات متعددة، فمن الجانب السياسي، قُسم الشمال إلى أربعة أقاليم والجنوب إلى إقليمين، بطريقة لا تتأثر فيها الحدود الشطرية التي كانت سائدة قبل عام 1990.
وعلى مستوى الأقاليم عُموماً، فقد قام توزيع المحافظات إلى ستة أقاليم، على هويات جغرافية ومناطقية ومعايير مذهبية وطبيعية، فتم اختيار حضرموت ومحيطها من محافظات الشرق (شبوة، المهرة، سقطرى)، إقليماً مساحته تزيد عن مساحة الأقاليم الخمسة الأخرى، ثم إقليم عدن، والذي يشمل بقية المحافظات الجنوبية (لحج، الضالع، أبين، عدن)، وشمالاً إقليم سبأ، ويضم مأرب والجوف والبيضاء، وهي محافظات تجمعها عوامل قبلية وجغرافية، وكذلك إقليم آزال، حيث الثقل العسكري والسياسي الذي يضم صنعاء، وذمار، وعمران، وصعدة، وإقليم الجند، ويضم محافظتي إب وتعز، حيث الكثافة السكانية والثقل السياسي والاجتماعي (والمدني إلى حد ما)، ثم إقليم تهامة ويضم محافظات الحديدة، المحويت، حجة، ريمة، غرب وشمالي غرب البلاد.
ولا يُعدّ التقسيم إلى ستة أقاليم، مصيراً حتمياً في الواقع العملي، إذ لا يزال من المتوقع أن يلاقي التطبيق شمالاً معوّقات جمة. وقد تحدث هادي في مقابلة صحافية عام 2016، عن احتمال صيرورة الأمر إلى خمسة أو ثلاثة أقاليم. في حين صنعت الحرب الدائرة في البلاد منذ أكثر من عامين، أربعة مراكز، هي حضرموت وعدن ومأرب وصنعاء، وفي عام 2014 كان الحوثيون يطالبون بإضافة حجة إلى إقليم نفوذهم ليتسنى لهم التمتع بمنفذ بحري.
تطورات حضرموت... إعادة الأقاليم أم موتها؟
وبين زحمة الأحداث والتطورات اليومية منذ عامين، جاء انعقاد "مؤتمر حضرموت الجامع" الأسبوع الماضي، وما صدر عنه من قرارات، ليشد إليه أنظار اليمنيين ويفتح التساؤلات الكبيرة حول مستقبل البلاد، إذ تباينت القراءات لهذا التطور وما يمكن أن ينتج عنه من تأثيرات على مستوى الأقاليم ووحدة البلاد بشكل عام.
وعلى الرغم من كون مؤتمر الحوار اعتبر حضرموت ومحيطها إقليماً يضم أكثر من نصف مساحة اليمن، إلا أن الحكومة اليمنية وقيادات الأحزاب والقوى السياسية، اختارت الصمت إزاء تطور كبير شد إليه أنظار اليمنيين، ممثلاً بانعقاد المؤتمر الحضرمي، الذي يعدّه بعض المشاركين في المؤتمر أبرز حدث في حضرموت على مدى قرن، فيما محافظ حضرموت اللواء أحمد سعيد بن بريك، اعتبره بداية لطي 50 عاماً.
وتتمحور أبرز ردود الفعل اليمنية، من خارج حضرموت، والتي رصدتها "العربي الجديد"، خلال اليومين الماضيين، باعتبار ما شهدته المحافظة الشرقية خطوة نحو الانفصال لا تلتزم بـ"الأقاليم"، سوى كمسمى، في حين أن النصوص الواردة في الوثيقة الصادرة عن "مؤتمر حضرموت الجامع"، لا ينقصها سوى تحديد ألوان الراية الحضرمية والنشيد الوطني وتحديد اسم "دولة"، بدلاً من إقليم، فالمحتوى يتحدث عن سيادة غير منقوصة وشرطة وقوات مسلحة بقيادة حضرمية، وفق رأي البعض.
وكان البيان الختامي للمؤتمر، والذي وصفه بعض المحللين، من هذا الرأي، بأنه "وثيقة الاستقلال"، تضمّن بنداً يشترط أن يكون لحضرموت حق ترك الاتحاد متى شاءت. ومن المقدمة إلى البنود والقرارات الموزعة على 40 نقطة، لم يُذكر اسم اليمن، ما يعكس حضوراً لشخصيات متشددة تحاول إنكار الهوية اليمنية، والتشديد على أن حضرموت هوية، وغير ذلك من النقاط، التي تمزج بين اعتبار حضرموت إقليماً ضمن اتحاد من المقرر أن يكون صيغة تلملم أجزاء اليمن المبعثر بعد الحرب، وبين المطالبة بحقوق تجعل من حضرموت دولة، باسم إقليم.
وتكمن الأهمية المحورية لهذه الخطوة، كونها تلامس أحد أكثر المواضيع حساسية في التاريخ السياسي اليمني الحديث. فالحديث عن حضرموت هو حديث عن محافظة تحتل مساحتها أكثر من ثلث مساحة اليمن، والحديث عنها كإقليم يشمل وفقاً للتقسيم الفيدرالي إلى جانبها شبوة وسقطرى والمهرة، يجعل منها مسألة تتعلق بما يزيد عن نصف مساحة اليمن، ومناطق تتركز فيها الثروة، وترتبط بالأذهان بالحديث عن الأطماع الخارجية في هذا الجزء الهام من اليمن.
وفي السياق، تجدر الإشارة إلى أن النخبة في المحافظات الجنوبية (عدن ومحيطها)، تنظر إلى ما يحدث في حضرموت بحساسية أكبر، باعتبار أن تحوّل حضرموت إلى إقليم يهدد بتقسيم الجنوب الذي ينادي بعضه بالانفصال عن الشمال وآخر باعتباره إقليماً وفقاً لحدود ما قبل إعادة توحيد قبل 1990.
ولعل هذا الأمر، هو ما دفع بسفير اليمن في بريطانيا، الأمين العام للحزب الاشتراكي اليمني، ياسين سعيد نعمان، إلى إعلان رأيه المعارض، في وقت صمت فيه أغلب السياسيين اليمنيين.
وأعلن نعمان رأيه في مقالة مطولة نشرها على صفحته الشخصية، السبت، قائلاً إن "تقسيم الجنوب إلى إقليمين يستحضر تاريخاً من الانقسامات وإعادة إنتاج الهويات بصيغة مفككة وبطابع يغلب عليه الصراع وليس التكامل".
وأضاف: "أنا شخصياً مع الحفاظ على هذه الهويات ورعايتها طالما ظلت منسجمة ومتوافقة مع الهوية الجامعة، فالمشكلة لا تكمن فيها وإنما في النخب التي تتولى توظيفها وتعمل على تحويلها إلى هويات صدامية منفوخة كبالون يحلق في الهواء، ومحمولة بذاكرة لا تاريخية، بمعنى أنها تتجاوز الحقيقة في استيعاب وقائع التاريخ".
وتمثّل حضرموت الجزء الأكبر مما كان يسمى "دولة اليمن الجنوبي" سابقاً، توزعت شخصياتها السياسية بين من انضوى في الحزب الاشتراكي وكان له دور فاعل في الأحداث السياسية قبل الوحدة وبعدها، مثل نائب الرئيس الأسبق، علي سالم البيض، ورئيس أول حكومة في دولة الوحدة، حيدر أبوبكر العطاس، مروراً بالشخصيات التي أدت أدواراً في العقدين الأخيرين، كرئيس الحكومة الأسبق، عبدالقادر باجمال، ورئيس الحكومة السابق، خالد بحاح، وصولاً إلى رئيس الوزراء حالياً، أحمد عبيد بن دغر. وهناك جزء غير قليل من الحضارم، من شخصيات سياسية واجتماعية ورجال أعمال، توجّهوا نحو الخليج ودول إسلامية (أنيس باسويدان انتخب حاكماً لجاكرتا وهو من أصول حضرمية)، وظل بعضهم سواء ممن برزوا خارج البلاد أو داخلها، يتعاملون كحضارم، ويظهرون حالة من عدم الرضى عن الوضع.
وبسبب المقوّمات الجغرافية والطبيعية والظروف السياسية والاقتصادية وغير ذلك من العوامل، نشأت في بعض الأوساط السياسية اليمنية وحتى الوعي الشعبي العام، بعض الحساسية تجاه أي نوع من النشاط ذي الطبيعة الحضرمية، باعتبار ذلك يؤثر على الهوية الجامعة للبلاد أو يهدد وحدتها.
واللافت أن التباين ومجموعة المخاوف، تبرز اليوم، بعد إعلان وثيقة "مؤتمر حضرموت الجامع"، في حين أن مؤتمر الحوار الوطني كان قد جعل من حضرموت إقليماً. وقد أكد المحافظ بن بريك، في افتتاح "المؤتمر الجامع"، أن حضرموت ستكون إقليماً ضمن الأقاليم الستة في الدولة الاتحادية.
وفي هذا السياق، ذهب جزء من الرأي اليمني، تعليقاً على مؤتمر حضرموت، إلى اعتبار أنه يمثّل تدشيناً للدولة الاتحادية المقرر أن تنشأ وفقاً لمسودة الدستور المبني على مخرجات مؤتمر الحوار. ورأى أصحاب هذا الرأي، في ما احتوته الوثيقة من مضامين تتعدى خصائص الإقليم إلى مقومات دولة، بأنها تأتي في سياق رفع السقف، للحصول على الحد الأدنى من المطالب.
وقال الكاتب اليمني منصور صالح محمد، لـ"العربي الجديد"، إن "ما جرى في حضرموت هو تعبير عن رغبة حضرمية قديمة في تحقيق استقلال القرار الحضرمي، وهي تتعزز اليوم في ظل الفشل العام في اليمن عموماً والجنوب خصوصاً في إدارة الموارد والقرار السياسي".
وأضاف أن "الإخوة الحضارم يستشعرون أنهم ظُلموا تاريخياً وأن هناك استغلالاً سيئاً لثرواتهم ومواردهم وتسخيرها لقوى متنفذة، خصوصاً من قبل قوى الفساد في الشمال، والأهم من هذا أن هناك قوى إقليمية تحاول سلخ حضرموت عن محيطها وتشجيعها ودعمها في ذلك".
واعتبر محمد أن المهم اليوم هو أن "هناك من الحضارم من يحاول استغلال فترة الوهن العام وفرض أمر واقع يضمن له أحد أمرين، الأول الأمن والاستقرار في حال الانهيار الشامل للدولة، وانفراط عقدها كلياً. والآخر تحسين شروط تفاوض الحضارم مع مركز الدولة الاتحادية بخصوص تقاسم الثروة وإدارتها إذا قامت الدولة واستعادت عافيتها وسعت بدعم دولي وإقليمي إلى فرض خيار الأقاليم على الجنوب".
كما أشار إلى محاولة "استنساخ تجربة إقليم كردستان في حضرموت بإدارة نفسه وثرواته، وسينجحون طالما ظل الآخرون يقدّمون نماذج للفشل والفوضى في كل شيء".
يُذكر أن الحديث عن وضع حضرموت كإقليم مستقل، يمثّل ضربة قاصمة لمشروع إعادة التقسيم على أساس شمال وجنوب وفقاً للحدود الشطرية قبل إعادة توحيد البلاد عام 1990.
ومع ذلك يظل هاجس انفصال حضرموت نفسها هماً يشغل بعض الأوساط اليمنية، ويظل الملف غاية في الحساسية يجمع بين عِقد التاريخ وآثار الصراعات وتعقيدات الحاضر، ويربط مصير البلاد ككل.
وتظهر بعض الشخصيات الشمالية حالة من التشفي بالحراك الجنوبي الذي يرفع شعار الانفصال منذ سنوات، في مقابل وجود من يحذر من تحول قضايا مصيرية إلى ورقة سياسية على هذا النحو.