قضى كثير من الغزيين شهداء بينما كانوا ينتظرون الموافقة على السفر إلى خارج القطاع، إذ تعطل عمل معبر رفح البري لأيام في بدايات العدوان الإسرائيلي، ثم أعيد فتحه، وظهرت لاحقاً صعوبات التوجه إلى المقار الحكومية لتسجيل طلبات السفر، وبعدها دمر الاحتلال عدداً كبيراً من مقار تسجيل المسافرين، من أبرزها مقر "أبو خضرة" في وسط مدينة غزة، وصولاً إلى اقتصار التسجيل على مقر واحد في مدينة رفح.
كان الفلسطيني أحمد أبو حبل (34 سنة)، ينتظر ورود اسمه ضمن قوائم المسافرين بعدما تقدم عدة مرات بطلبات لإدارة الجانب الفلسطيني من معبر رفح، كونه يحمل إقامة عمل إماراتية ولا يريد ان يخسر عمله الذي كان يعتبر مصدر الرزق الوحيد لأسرته التي تعيش في القطاع، لكن اسمه ظهر ضمن قوائم المسافرين عبر المعبر بعد أيام من استشهاده.
ظل أبو حبل، الذي كان يعمل مهندساً مدنياً في إحدى شركات الإنشاءات بإمارة الشارقة، يحمل في جيب بنطاله جواز سفره وبطاقة إقامة العمل لعدة أشهر على أمل أن تصدر الموافقة ويتمكن من السفر، قبل أن يستشهد في قصف إسرائيلي استهدف أحد منازل منطقة البلد في مدينة خانيونس، في 16 يناير/ كانون الثاني الماضي.
يقول شقيقه عبد الرحمن أبو حبل لـ"العربي الجديد"، من إحدى خيام النازحين بالقرب من الحدود المصرية: "عاد شقيقي إلى غزة في عطلة بعد غياب عامين، وكانت مدة إجازته شهراً واحداً، وقد وصل في 28 سبتمبر/ أيلول 2023، وبعد أيام فقط بدأت الحرب، وأصاب القصف منزلنا في منطقة السودانية المطلة على شاطئ البحر في شمالي القطاع. عندما عاد شقيقي، كان يعبر عن دهشته من أعداد المباني والمقاهي الجديدة، وكان سعيداً بالتطور الحاصل في القطاع، فنحن مجتمع يحب التطوير رغم الحصار. عاش فترة قصيرة من الفرحة بيننا، ثم بدأ العدوان، فدخل في معضلة كبيرة للحصول على تصريح السفر، إذ كان يخشى أن يخسر عمله رغم أن أصحاب العمل كانوا يقدرون الأوضاع. لكنه استشهد قبل الحصول على التصريح بسبب سياسة السفر العقيمة".
تعيش أسرة حازم أبو سلطان (40 سنة)، في العاصمة البلجيكية بروكسل، وكان يعيش هناك لأكثر من سبع سنوات قبل أن يعود إلى قطاع غزة، وكان يرغب في السفر للبقاء مع أسرته مجدداً وتقديم أوراقه للحصول على الجنسية البلجيكية، لكنه استشهد في 13 فبراير/ شباط الماضي، وفي اليوم نفسه تلقى إشعاراً بوجود اسمه ضمن كشوفات السفر المقرر بعد يومين.
تبلغ كلفة تنسيقات السفر لكل فرد في غزة نحو 5 آلاف دولار أميركي
تقول زوجته مرام أبو سلطان، التي نزحت مع أسرتها من مدينة غزة إلى مدينة رفح: "كان حازم من بين كثيرين يحملون إقامات أوروبية وينتظرون تصريح السفر عبر معبر رفح، لكن لم يكن الحصول على التصريح سهلاً، وقد خاض قبل سنوات رحلة الموت إلى أوروبا، ووصل إلى اليونان عبر البحر، ثم عبر طريق البلقان مروراً بعدة دول أوروبية حتى وصل إلى بلجيكا، وبعد سنوات من الغربة، أراد أن يفاجئ عائلته في غزة، فعاد إلى القطاع ليقضي شهيداً".
تضيف أبو سلطان، متحدثة لـ"العربي الجديد": "كنا في انتظار تضمين أسمائنا في الكشوفات التي يتم إعلانها عبر إدارة المعابر في غزة، وحاول زوجي على مدار أكثر من شهرين تسريع الإجراءات، لكنه لم يستطيع فعل شيء، إذ لم يكن يملك المال الكافي لدفع أموال تنسيقات السفر الباهظة، رغم أنه يستحق أن يسافر بسرعة، لكن سياسات المعبر عقيمة، وتتسبب في طول الانتظار، وفي يوم استشهاده بالذات كنت أمسك بهاتفه، وقد وصلته رسالة تطلب منه التوجه إلى المعبر للسفر بعد يومين".
تواصل: "استشهد شقيقي محمد أبو سلطان وزوجته وطفلاه في بداية العدوان، وقررت البقاء مع والدتي المسنة، في حين قرر زوجي السفر لتقديم أوراق الجنسية حتى يضمن معيشة جيدة لي ولأطفالنا الثلاثة، لكن كان قدره أن يستشهد في غزة، والمحزن أنه دفن في منطقة بعيدة، بينما كان يريد أن يدفن إلى جوار والده بحسب وصيته".
واستشهد العديد من سكان غزة الذين يحملون جنسيات أوروبية أو أميركية أو مصرية بينما كانوا ينتظرون تصاريح السفر، وتواصل بعضهم مع وزارات الخارجية في الدول التي يحملون جنسيتها لتسهيل مغادرتهم، لكن بسبب تزايد أعداد الراغبين في السفر، ولأن جميع مناطق قطاع غزة تحت القصف، لم يتمكنوا من المغادرة.
كان الشهيد محمد أبو بركة (37 سنة)، يحمل الجنسية الألمانية، وتحمل والدته الشهيدة سمية أبو بركة (60 سنة)، الجنسية المصرية، لكنهما لم يتمكنا من مغادرة القطاع. يقول شقيق الشهيد، ماجد أبو بركة، لـ"العربي الجديد": "حصل شقيقي على الجنسية الألمانية في عام 2022، بعد رحلة لجوء، وعمل لفترة ممرضاً في أحد مستشفيات مدينة فرانكفورت، وتحمل والدتي الجنسية المصرية، ولدينا أقارب في محافظة الشرقية المصرية، وكنا نرغب في السفر إلى مصر كي نستريح قليلاً من الحرب، لكنهما استشهدا في قصف على المنطقة الشرقية بمدينة خانيونس في الثالث من فبراير الماضي".
يضيف أبو بركة: "بعد تدمير منزلنا لم يعد لدينا أي مكان نعيش فيه، ولم نكن نشعر بالأمان، وكانت والدتي ترغب بالبقاء في مصر، برفقة شقيقتيّ اللتين تعيشان في شقة خالي. لكن مثل كثيرين، قضى أفراد أسرتي شهداء في انتظار الموافقة على المرور من معبر رفح، والذي مات كثير من الغزيين أمامه".
لم يقتصر الشهداء الغزيون الذين كانوا ينتظرون الموافقات على السفر على حاملي الإقامات والجنسيات الأجنبية، إذ كان بينهم من يرغبون في السفر لأمور متعلقة بأسرهم المقيمة في خارج القطاع، وكان بعض هؤلاء يجمعون التبرعات من أجل توفير كلفة السفر، خصوصاً من دمرت منازلهم أو خسروا مصادر رزقهم، إضافة إلى المرضى والمصابين الذين كانوا ينتظرون العلاج في الخارج.
ونظم غزيون بعد اندلاع العدوان على القطاع حملة تبرعات عبر منصات إلكترونية من أجل مساعدة الراغبين في دفع كلفة التنسيقات أملاً في تسريع السفر، وتقدر عن كل فرد بما لا يقل عن 5 آلاف دولار أميركي، وكان البعض ينتظرون طويلاً قبل جمع المبلغ، خصوصاً بالنسبة للعائلات الكاملة الراغبة في السفر، واستشهد كثيرون قبل أن يتمكنوا من جمع تلك المبالغ.
من بين هؤلاء أسرة الفلسطيني أحمد سالم، الذي استشهدت والدته هيام (58 سنة)، وشقيقته منى (27 سنة)، قبل أن يتمكن من تأمين 30 ألف دولار لازمة لمغادرة 6 أفراد من العائلة، ويقول لـ"العربي الجديد": "كانت منصات التبرعات الحل الوحيد أمامي لجمع المال، فمنزلنا في مدينة غزة دمره القصف، كما دمر مصدر رزقنا الوحيد. كنت متعلقاً بوالدتي التي كانت تعاني من هشاشة العظام، كما كانت شقيقتي تعاني من فقر الدم، وساعدني أحد الأصدقاء في أوروبا على فتح حساب التبرعات بسبب قيود الرقابة المالية. أمي وشقيقتي استشهدتا بعدما اقتربتُ من جمع الأموال لخروج جميع أفراد عائلتي، ولم يعد للحياة طعم بعد استشهادهما".
واستشهد عدد كبير من الجرحى وأصحاب الأمراض المزمنة خلال انتظار السفر للعلاج خارج قطاع غزة، إذ تستغرق موافقات السفر وقتاً طويلاً، وتتدهور أوضاعهم في ظل انهيار القطاع الطبي، وعدم توفر الإمكانيات اللازمة للعلاج أو إجراء العمليات الجراحية وندرة الأدوية، ولم يتمكن كثيرون من تحمل فترات الانتظار، ففقدوا حياتهم.
العربي الجديد
أخبار ذات صلة
الخميس, 29 فبراير, 2024
الأمم المتحدة تندد بقتل الاحتلال لمدنيين في "غزة" خلال انتظار استلام مساعدات