في السابع من مايو/أيار عام 2022، أفصح رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق "إيهود باراك" في مقال بصحيفة "يديعوت أحرونوت" عن مخاوفه من الزوال المُرتقب لدولة الاحتلال، مُعللا مخاوفه بما سمّاه "سُنَّة التاريخ اليهودي"، التي تقول إن كل الدول اليهودية لم تُعمِّر أكثر من 80 سنة إلا في فترتين استثنائيتين؛ فترة الملك داوود، وفترة الحشمونائيم وفق الروايات اليهودية، وفي كلتيهما بدأ تفكُّكها في العقد الثامن".
وقد أشار "باراك" إلى دول وممالك أخرى ضربها الانقسام والتفكك في عقدها الثامن، "فأميركا نشبت فيها الحرب الأهلية في العقد الثامن من عمرها، وإيطاليا تحولت إلى دولة فاشية في عقدها الثامن، وألمانيا تحولت إلى دولة نازية في عقدها الثامن وكانت سببا في هزيمتها وتقسيمها، وفي العقد الثامن من عمر الثورة الشيوعية تفكك الاتحاد السوفيتي وانفرط عقده".
لا تأتي تلك المخاوف والتحذيرات من إيهود باراك وحده، فالعديد من الساسة والمؤرخين والكتَّاب الصهاينة عمدوا إلى تبني مثل هذا الخطاب في العقود الأخيرة، وتحديدا منذ بدء الانتفاضة الأولى عام 1987 وما شكَّلته من تهديد على أمن المجتمع الصهيوني في فلسطين.
والآن، بعد أربع حروب خاضها الاحتلال في غزة، وبعد عملية "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، عادت هذه المخاوف مرة أخرى، لا سيَّما مع هروب العديد من المستوطنين إلى الخارج بمجرد اندلاع الهجوم القسَّامي. هناك خطر حقيقي يستشعره قادة الكيان الصهيوني قبل أفراده، فما ملامح هذا الخطر؟ ولماذا خرج الأمر من نطاق التشاؤم بالتاريخ اليهودي إلى التحذير الحقيقي من صعوبة استمرار دولة الاحتلال؟
الفلسطينيون سيبتلعوننا
في حوار مع صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية، خرج المؤرخ الإسرائيلي "بيني موريس" عام 2019 راسما ملامح النهاية للمشروع الصهيوني، قائلا إنه لا يجد مخرجا واحدا لبقاء إسرائيل بوصفها دولة يهودية، ومُعلِّلا ذلك بالتفوق الديمُغرافي الواضح للعرب مقابل اليهود، خاصة مع ممارسات الاحتلال التي تسلب العرب حقوقهم، مضيفا أن حكم إسرائيل "لشعب محتل بلا حقوق ليس وضعا يمكن أن يدوم في القرن الحادي والعشرين في العالم الحديث. وما إن تصبح لهم حقوق فلن تبقى الدولة يهودية".
ولأن الفلسطينيين "ينظرون إلى كل شيء من زاوية واسعة وطويلة الأمد" على حد وصف موريس، فإن وجود "ستة أو سبعة ملايين يهودي، يحيطهم مئات الملايين من العرب"، يعني أن الانتصار "سيكون حليف هؤلاء العرب في غضون ثلاثين إلى خمسين عاما".
وقد أثار ذلك مخاوف وزير الدفاع السابق "بيني غانتس" ودفعه للتحذير من فقدان السيادة الإسرائيلية في منطقتيْ النقب والجليل بسبب تعاظم الثقل الديمُغرافي للفلسطينيين.
إذا ألقينا نظرة على الأرقام فسنجد أنها تؤيد هذه التنبؤات وتدعمها. ففي بيان لدائرة الإحصاء المركزية في تل أبيب، ذُكِرَ أن عدد سكان دولة الاحتلال في نهاية عام 2022 بلغ 9.6 ملايين نسمة، منهم مليونا عربي من عرب الداخل و513 ألفا لم يُحدِّدوا قومية لهم، وأن عدد المواليد اليهود في هذا العام بلغ قرابة 133 ألف مولود بزيادة قدرها 1.87%، فيما فاق عدد مواليد العرب 42 ألف مولود بزيادة بلغت 2.1%.
يمنح ذلك عرب الداخل المحتل دون غيرهم نسبة تفوق في عدد المواليد، ويمكن لها أن تُشكِّل خللا في التوازن الديمُغرافي داخل الأراضي المُحتلة على المدى الطويل. ولكن بالنظر إلى التعداد السكاني للفلسطينيين في قطاع غزة والضفة الغربية، سنجد أن عدد سكان القطاع والضفة مجتمعين بلغ 5.48 ملايين نسمة عام 2023، ووفقا للجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني فإن عدد الفلسطينيين مجتمعين -بما فيهم اللاجئون في الشتات- بلغ 14.5 مليونا، ما يعني أن الدولة الواحدة التي يتحدث عنها "موريس" ستكون دولة ذات أغلبية عربية بنسبة تفوق الثلثين.
وما يزيد تلك الأزمة الديمُغرافية تعقيدا هو التغيرات الطارئة على ملف الهجرة اليهودية، فبحسب بيانات كلٍّ من وزارة الهجرة الإسرائيلية والوكالة اليهودية، فإن معدلات الهجرة اليهودية من أوروبا وأميركا إلى فلسطين شهدت تراجعا كبيرا في النصف الأول من عام 2023. ورغم تفاخر الوكالة اليهودية بأن الأراضي المحتلة استقبلت نحو 70 ألف مهاجر، وهي أكبر نسبة هجرة في العقد الأخير، فإن غالبية هذا العدد أتى من روسيا وأوكرانيا المتحاربتين.
لا تبشِّر هذه الأرقام القيادة الإسرائيلية كثيرا؛ لأن أكثر من 200 ألف يهودي في أوكرانيا، وأكثر من 500 ألف يهودي في روسيا، لا يزالون يُفضِّلون البقاء في بلادهم عن الهجرة إلى فلسطين، علاوة على أن ثلث المهاجرين الروس عادوا إلى روسيا مرة أخرى بمجرد حصولهم على الجوازات الإسرائيلية. هذا وتراجعت نسبة استقدام اليهود من الولايات المتحدة وبقية أوروبا بنحو 20% مقارنة بالعام الماضي. أما المشكلة الأكبر لدولة الاحتلال فهي الهجرة العكسية لليهود خارج الأراضي المحتلة، والتي تعكس هشاشة الانتماء إليها.
في استطلاع أجراه معهد "ميدغام" للرأي العام الإسرائيلي قبل 6 سنوات، وُجِد أن 44% فقط من يهود إسرائيل هم من يُعرِّفون أنفسهم بوصفهم إسرائيليين، فيما أعلن 27% آخرون عن رغبتهم في الهجرة، وهي نسبة غالبيتها من الشباب بين 23-29 عاما.
وفي هذا العام، وقبل أشهر قليلة من "طوفان الأقصى"، أعلن معهد البحوث الاقتصادية (ERI) عن دراسة أجراها في شهر يوليو/تموز الماضي تفيد بأن 56% من الشباب بين عمري 18-44 يدرسون عمليا خيار الهجرة، في زيادة نحو 12% عن العام السابق، فيما كشف تقرير إسرائيلي نشرته صحيفة "يديعوت أحرنوت" عن أن أكثر من 47% ممن هاجروا أو غادروا لا يودون العودة مرة أخرى.
في غضون ذلك، نمت وازدهرت خلال الأشهر الأخيرة حركة جديدة تحت اسم "لنغادر البلاد معا" بهدف تشجيع الهجرة اليهودية العكسية إلى الخارج، ونجحت في تهجير قرابة 10 آلاف يهودي إلى الولايات المتحدة في المرحلة الأولى فقط. لكن المفارقة تتبدى في أن أحد قادة الحركة هو الرأسمالي الإسرائيلي "مردخاي كاهانا" الذي نشط سابقا في استقدام اليهود من كل أنحاء العالم إلى الأراضي المحتلة.
وحول أسباب هذه الهجرة، قال "آدم كلير"، المتحدث باسم "كتلة السلام الآن"، إنه بخلاف الأسباب القديمة للهجرة، المتمثلة في ارتفاع معدلات البطالة أو الظروف المعيشية الصعبة، فإن الأسباب الحالية للهجرة "تعود للصراعات الداخلية بين اليهود حول هوية إسرائيل، وكذلك لتزايد المخاوف والشعور بعدم الأمان مع احتدام الصراع مع الفلسطينيين وانسداد الأفق لأي تسوية سياسية مستقبلية".
الانقسام على الذات
بعد أكثر من سبعة عقود على نشأة دولة الاحتلال، لا يزال المجتمع الإسرائيلي يعاني من انشقاقات وتصدعات كافية لإرهاق أي مجتمع وبلبلة أي بلد مستقر، ويتكشف ذلك بوضوح في حالة التضاد الطائفي الحاد بين مكونات المجتمع الإسرائيلي نفسه على كلٍّ من المستوى السياسي والديني والإثني.
على المستوى السياسي خاضت دولة الاحتلال خمسة انتخابات برلمانية في السنوات الأربع الماضية نتيجة الانقسام الذي يَحُول دون منح الأغلبية لحزب بعينه. ولهذا توالت التحذيرات من مسؤولين رفيعي المستوى داخل دولة الاحتلال، على رأسهم رئيس الوزراء السابق "نفتالي بينيت".
ففي رسالة نقلها موقع القناة "12" من التلفزيون العبري، قال "بينيت" قبل استقالته إن "الدولة تقف أمام اختبار حقيقي ومفترق طرق تاريخي: إما استمرار العمل وإما العودة إلى الفوضى، لأنها تشهد اليوم حالة غير مسبوقة تقترب من الانهيار.. فقد تفككت إسرائيل مرتين في السابق بسبب الصراعات الداخلية، ونحن نعيش الآن حقبتنا الثالثة، ومع اقترابها من العقد الثامن، تصل إسرائيل لواحدة من أصعب لحظات الانحطاط التي عرفتها على الإطلاق".
مجددا نرى هنا استدعاء هاجس العقد الثامن من رجل آخر تولى أكبر منصب في الحكومة الإسرائيلية، وهو فوق ذلك يشرح أسباب هذا الهاجس المؤذن بانهيار الدولة، وهو "عدم الانسجام بين مكوناتها من جهة، وجهود المعارضة اليمينية لإسقاط الحكومة من جهة أخرى"، التي سقطت بالفعل بعد ذلك التحذير بفترة قصيرة، وأفسحت الطريق لصعود حكومة اليمين المقصودة برئاسة "نتنياهو".
وقد استدعى "نتنياهو" نفسه العُقدة ذاتها بتصريح قال فيه: "سأجتهد كي تبلغ إسرائيل عيد ميلادها المئة، لأن مسألة وجودنا ليست مفهومة ضمنا، وليست بديهية، فالتاريخ يعلمنا أنه لم تُعمَّر دولة للشعب اليهودي أكثر من 80 سنة".
وقد انضم إلى زمرة المُحذِّرين من الانشقاق السياسي رئيس الموساد السابق "تامير باردو"، الذي أكَّد في محاضرة بكلية "نتانيا" أن التهديد الأكبر الذي يحوم فوق إسرائيل يتمثل في الإسرائيليين أنفسهم نتيجة آلية التدمير الذاتي التي جرى إتقانها في السنوات الأخيرة، مشددا على ضرورة وقف "هذا المسار الكارثي قبل نقطة اللا عودة، لأن إسرائيل تنهار ذاتيا".
وفي السياق نفسه، أعرب البروفيسور "دانيال كانمان"، الباحث الإسرائيلي الحاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد، عن قلقه بشأن بلاده، الذي يفوق قلقه أثناء حرب أكتوبر 1973، نتيجة مشروع "الانقلاب القضائي" الذي يقوده نتنياهو، رغم التحذيرات المتتالية من تحييد السلطة القضائية لصالح السلطة التنفيذية ونسف استقلالها. وأضاف كانمان: "هذا ليس البلد الذي نشأت فيه، هذا ليس البلد الذي سيرغب أحفادي في العيش فيه. فعندما تتوغل السلطة التنفيذية على السلطة القضائية، فإنها تديم حكم أي حزب.. هذه نهاية الديمقراطية بلا شك".
إلى جانب التوترات السياسية داخل دولة الاحتلال، تظهر على السطح تصدعات تاريخية لم تتوقف على مر تاريخها، أولها التوتر الديني بين المتدينين والعلمانيين، وثانيها التوتر الإثني بين الأشكناز (يهود أوروبا) والسفارديم (يهود الشرق) والفلاشا (يهود أثيوبيا) وغيرها من الطوائف.
لقد نشأ الصراع بين اليهودية الأصولية والصهيونية منذ اللحظة الأولى لظهور الحركة الصهيونية، إذ اعتبر المتدينون اليهود أن الحركة الصهيونية حركة كافرة تخالف تعاليم التوراة بإنشاء دولة لليهود، بينما تنص اليهودية وفقا للمتدينين على ترك اليهود في الشتات حتى يأتي المسيح المخلص في آخر الزمان ويقيم لهم دولتهم.
وما إن انتقل المتدينون (أو الحريديم) إلى الأراضي الفلسطينية حتى أخذ الصراع يشق المجتمع الإسرائيلي، وذلك عن طريق جماعتيْ "ساطمر" و"ناطوري كارتا"، اللتيْن ناصبتا الصهيونية العداء، إلى حدٍّ اعتبر فيه الحاخام "يوئيل تتلباوم"، الزعيم الروحي لحركة "ساطمر"، أن الهولوكوست عقاب من الله للشعب اليهودي الذي خالف وصاياه على يد الحركة الصهيونية.
وعلى المنوال نفسه تتخذ جماعة "ناطوري كارتا" موقفا عدوانيا من الصهيونية، حتى إن أتباعها يقاطعون توقيت الدولة وإعلامها كله (عدا البرامج الدينية في الإذاعة)، ويعتمدون توقيتا خاصا يبدأ فيه اليوم في منتصف النهار، ويمتلكون صحيفة خاصة لا تكف عن مهاجمة الصهيونية، فضلا عن موقفهم الرافض للخدمة العسكرية، حتى إن الحاخام "هيرتش" يقول في هذا الصدد: "لماذا يفكرون في تجنيدنا وهم لا يجندون العرب؟ نحن أكثر كراهية لهم من العرب، وإذا أعطونا سلاحا فسنطلقه عليهم".
أما الانقسام العِرقي فقد عرضناه في تقرير سابق، حيث يعاني السفارديم والفلاشا من عنصرية ملحوظة يمارسها الأشكناز تجاههم، حتى إن مظاهر التمييز حاضرة في فرص العمل والتوظيف والأجور، حتى لو كان الأفراد على الدرجة المهنية والأكاديمية نفسها. وتمتد مظاهر تلك العنصرية الأشكنازية إلى الثقافة الشرقية والذوق الفني للسفارديم، التي ينظر إليها الأشكناز نظرة دونية عنصرية لم تتغير منذ تأسيس الدولة.
أما الفلاشا فيواجهون عنصرية أشد بسبب لون بشرتهم، تصل في بعض الأحيان إلى رفض دمائهم التي تبرعوا بها في المستشفيات، علاوة على اضطهاد الشرطة الإسرائيلية، تماما كما حدث مع الشاب "سولومون تاكا"، الذي قتلته رصاصات شرطي إسرائيلي عام 2019، قبل أن تتحول جنازته إلى تظاهرات واحتجاجات وصلت لطلب النصرة من العرب، وأصابت تل أبيب باضطرابات كبيرة.
في منزل العدو
علاوة على هذه الاضطرابات الداخلية، تؤجج المقاومة العربية التي لم تتوقف من قِبل الفلسطينيين المخاوف الإسرائيلية من العدو الذي يبيتون في منزله منذ أكثر من سبعة عقود. وفي هذا السياق، عبَّر السياسي الإسرائيلي ورئيس الكنيست الأسبق "أبراهام بورغ" في مقالة بصحيفة "الغارديان" عام 2003 بعنوان "نهاية الصهيونية" عن مخاوفه بشأن العمليات الاستشهادية للفلسطينيين بوصفها عواقب خطيرة للسلوك الإسرائيلي العنصري تجاههم، فالفلسطينيون "يريقون دماءهم في مطاعمنا ليفسدوا شهيتنا لأن لديهم أبناء وآباء في البيت يشعرون بالجوع والذل".
وقد أكَّد ذلك الرأي المحامي الإسرائيلي "أفيغدور فيلدمان" في ندوة بمركز "المساواة" بالناصرة، حيث قال: "إن إسرائيل مجتمع مغلق، رأسمالي، مادي، يعيش مع الإنكار، يضعف ويتسع فيه الجهل بالتدريج، وإن مثل هذا المجتمع سيزول"، وذلك هو السبب في الإخفاق العسكري المتكرر من بعد عام 1967 في رأيه.
وإلى جانب تلك المخاوف الداخلية من ثورة الفلسطينيين وهشاشة البنية الاجتماعية للمجتمع الإسرائيلي، تأتي المخاوف الخارجية الأخرى من الخسارة المتتابعة للرأي العام العالمي مع كل حدث وحشي، خاصة مع تنامي وسائل الاتصال والإعلام وتطورها حينا بعد حين. فمشاهد مظاهرات التضامن مع غزة في لندن ومدريد وروتردام وسان فرانسيسكو وغيرها ضد القصف الإسرائيلي مشاهد جديدة على العقل الصهيوني، لم يألفها ولم يرها بهذا الوضوح من قبل.
ولكنها ليست وليدة اللحظة، ففي استطلاع للرأي أجراه مركز "يوغوف" (YouGov) البريطاني، رُصِدَ أن شعبية دولة الاحتلال تتآكل في جميع أنحاء أوروبا، حيث انخفض معدل دعمها 14 نقطة، وأتت دول مثل بريطانيا وفرنسا في الصدارة بوصفها شعوبا أصبحت أقل انحيازا لدولة الاحتلال.
يعيدنا ذلك بالذاكرة إلى نموذج الجماعة الوظيفية الذي تبنّاه "المسيري" في موسوعته "اليهود واليهودية والصهيونية" وفسَّر من خلاله نشأة الكيان الصهيوني، إذ رآه محض كيان وظيفي أنشأه الغرب للحفاظ على مصالحه الاستعمارية دون أن تتلطخ يداه، وبمجرد انتهاء هذه الوظيفة، خاصة مع الضغط الشعبي العالمي، يفقد هذا الكيان أهميته لدى رعاته، فيخلعون أيديهم عنه.
وربما يحدث هذا بالفعل، وربما يتأجل، لكن لعنة العقد الثامن قد تدفع الإسرائيليين لتسريع هذا السيناريو دون وعي وهم يبيدون المئات من الفلسطينيين كل يوم في مجازر وحشية تُضاهي أسوأ ما شهده العالم منذ الحرب العالمية الثانية، وذلك تحت سمع وبصر شعوب باتت تعلم الكثير عن فلسطين، ولا تتحمل هذه الوحشية وخرجت تصرخ في قادتها ليوقفوا هذه الجرائم الإسرائيلية.
في الحقيقة، لا يمكن لأحد أن يجزم بموعد نهاية الكيان المُحتل، لكن يبدو أن كثيرين يؤمنون بحتمية هذه النهاية، خاصة أن شروطها متحققة بحذافيرها كما ذكر المسيرى ذات مرة.
لقد قال المسيري إن الجيوب الاستيطانية تنتمي إلى أحد نوعين: نوع إبادي يقوم على رفات السكان الأصليين كما حدث في أميركا وأستراليا، ونوع إحلالي جزئي، يحِل في ديار الشعب الأصلي دون أن يتمكن من إبادته، ما يُعرّضه دوما لمقاومة صاحب الأرض بصلابة لا تلين، ومن ثم يؤدي إلى تفكك الجيب الاستيطاني كما حدث للمستوطنات الغربية بجنوب أفريقيا.
نحن أمام كيان يتآكل من الخارج والداخل، ويهاجر شعبه للتخلص من الإزعاجات المتكررة، ويخضع قادته لهاجس وعقدة تنذر بالانهيار، ويهرب أفراده من التجنيد أو يتهربون من التعبئة، ويعاني من تصدعات داخلية على مستويات متعددة. إنه مجتمع عنصري يتزايد من حوله أصحاب الأرض واضعين إياه في أزمة ديمُغرافية مقلقة، وأمام هذا كله لا يزال يرسم صورة للعالم على أنه كيان لا يُقهَر وصاحب قدرات عسكرية متفوِّقة تستعرض عضلاتها بقصف المدنيين العُزَّل وقطع الكهرباء والماء والموارد عنهم، في حين يقف أمامه بضعة آلاف من الرجال ويلحقون به الضربات المتوالية التي تكشف هشاشته أمام نفسه وأمام العالم.
المصدر: الجزيرة