انقلب الجيش في ميانمار على الحكم المدني واعتقل كبار قادة الدولة، خصوصاً الزعيمة أون سان سوتشي التي فاز حزبها بأغلبية ساحقة في انتخابات رفض نتائجها قادة الجيش، فماذا يحدث بين الجنرالات الذين يرتكبون "الفظائع" بحق مسلمي الروهينغا وبين سوكي التي دافعت عن تلك الفظائع وبررتها أمام محكمة العدل الدولية؟
التحضير للانقلاب بدأ منذ الأربعاء الماضي 27 يناير/كانون الثاني عندما قال قائد الجيش الجنرال مين أونغ هلينغ (الحاكم العسكري وقائد الانقلاب) إن إبطال الدستور الذي أقر عام 2008 قد يكون "ضرورياً" في ظل ظروف معينة.
وجاءت تصريحات الجنرال هلينغ في إطار رفض قادة الجيش في ميانمار نتائج الانتخابات التي أجريت في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي وفاز فيها حزب الرابطة الوطنية للديمقراطية الذي تتزعمه سوتشي بأغلبية ساحقة، وطلب قادة الجيش تأجيل جلسة البرلمان الأولى التي كانت مقررة اليوم الاثنين 1 فبراير/شباط لكن سوتشي وزعماء الحزب رفضوا التأجيل.
اقتسام للسلطة واستمرار اضطهاد الروهينغا
المشهد الذي استيقظت عليه ميانمار والعالم فجر اليوم الاثنين لا زال يمثل لغزاً لعدد من الأسباب أبرزها أن الجيش بالفعل شريك في السلطة ويتمتع قادته بامتيازات سياسية واقتصادية هائلة بموجب الاتفاق الذي أبرموه مع الزعيمة المدنية سوتشي الحاصلة على جائزة نوبل للسلام عام 1991 والتي كانت أيقونة للمدافعين عن الضعفاء حول العالم حتى ذلك اليوم الذي وقفت فيه أمام محكمة العدل الدولية مدافعة عن الجنرالات المتهمين بارتكاب "فظائع" بحق أقلية الروهينغا المسلمة في ميانمار تصل إلى حد الإبادة الجماعية.
فالجيش في ميانمار (بورما سابقاً) كان يحكم البلاد بقبضة من نار منذ انقلاب عام 1962 وكان قادته متهمون بشن حرب إبادة جماعية بحق الأقلية المسلمة من الروهينغا وكانت البلاد تتعرض لعقوبات أممية وأمريكية ووضعها يشبه إلى حد كبير وضع كوريا الشمالية كدولة منبوذة دولياً. وكانت سوتشي وهي ابنة جنرال سابق تم اغتياله وعمرها عامين فقط تخضع لاعتقال قادة الجيش وتعرضت لجميع أشكال التعذيب والانتهاك، وحصلت على جائزة نوبل للسلام تقديراً لكفاحها من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان.
وفي عام 2008 توصلت سوتشي وقادة الجيش إلى اتفاق لتقاسم السلطة في البلاد وتم إقرار الدستور الحالي في هذا الإطار، وفي عام 2015 فازت سوتشي وحزبها في الانتخابات البرلمانية وتولت منصب رئيسة الوزراء وأصبحت تلقب بالسيدة الزعيمة، وتم رفع العقوبات عن ميانمار وسارعت الشركات الأمريكية والدولية لفتح مقار لها في البلاد، لكن ظل اضطهاد الروهينغا مستمراً رغم ذلك.
ووقفت سوتشي أمام محكمة العدل الدولية العام الماضي مدافعة بشراسة عن قادة الجيش وأصرّت دون بادرة اعتذار على أنه في حين "لا يمكن استبعاد احتمالية الاستخدام غير المتناسب للقوة" ضد الروهينغا، فإن استنتاج نية الإبادة الجماعية من طرف المحكمة يستند إلى "صورة منقوصة ومضللة للوقائع" التي جرت، وبلغ الأمر أن نشرت على صفحتها على موقع فيسبوك منشوراً تحت عنوان "اغتصاب مزيف"، مستبعدة على نحو صادم مزاعم الاعتداءات الجنسية المنظمة جيدة التوثيق ضد الروهينغا.
انقلاب يمثل لغزاً
والآن أعلن الجيش تسليم السلطة لقائده مين أونج هلانغين، وهو مدرج مدرج على قائمة العقوبات الأمريكية منذ ديسمبر/كانون الأول 2019، وذلك على خلفية انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان ضد الروهينغا في البلاد، وهم أقلية مسلمة يعيشون في ميانمار ذات الغالبية البوذية.
وقال توم أندروز، مقرر شؤون حقوق الإنسان في ميانمار بالأمم المتحدة لشبكة CNN الأمريكية، إن الانقلاب الذي تشهده ميانمار "لغز حقيقي"، لافتاً إلى أنهم (جيش ميانمار) من كتب الدستور الذي قاموا بإلقائه عرض الحائط (عبر الانقلاب)".
إذ فاجأ الانقلاب السريع العديد من المراقبين الذين ألقوا الضوء على أن الجيش يتمتع أصلاً بسلطات كبيرة، باعتبار أنه يملك 25% من مقاعد البرلمان التشريعية ووزارات سيادية مثل الدفاع والداخلية، بالإضافة إلى تمتعه بحق النقض "الفيتو" في المسائل الدستورية.
وتابع أندروز قائلاً: "الدستور يمنحكم سلطات كبيرة قوة اقتصادية وقوة سياسية، وعليه كيف ولماذا أطاحوا بدستورهم أمر عجيب".
هل دفعت سوتشي ثمن تبريرها اضطهاد الروهينغا؟
اللافت في القصة هو أنه في ظل حكومة أونغ سان سوتشي منذ 2015، أصبحت الأراضي الحدودية في ميانمار، حيث تتجمع الأقليات العرقية الأخرى في البلاد أشد اضطراباً مما كانت عليه قبل عقد من الزمن، وامتلأت السجون بشعراء ورسامين وطلاب بسبب تعبيرهم السلمي عن آرائهم المعارضة. وأفاد تقرير صادر عن بيانات "جمعية مساعدة السجناء السياسيين" في ميانمار قبل نحو عام أن هناك 584 شخصاً إما معتقلون سياسيون أو ينتظرون المحاكمة على تهم من هذا النوع.
وكان تغير موقف سوتشي من قضايا حقوق الإنسان والدفاع عن الضعفاء لافتاً ليس فقط داخل ميانمار ولكن حول العالم، وعلق سينغ نو بان وهو سياسي ينتمي إلى أقلية الكاشين العرقية التي تقاتل من أجل الحكم الذاتي في شمال البلاد على ذلك بقول لصحيفة نيويورك تايمز الأمريكية العام الماضي: "الآن بعد أن ذاقت طعم السلطة، لا أعتقد أنها قد تريد مشاركتها مع أي شخص".
وبحسب تقارير إعلامية من داخل ميانمار فمن بين المعتقلين رئيس البلاد وين مينت ومسؤولين كبار آخرين، بخلاف سوتشي، كما تم تعطيل شبكة الإنترنت والاتصالات عقب الانقلاب.
هل كانت ديمقراطية ميانمار شكلية؟
الانقلاب السريع بتفاصيله الغائب معظمها خلف الكواليس يطرح تساؤلات كثيرة بشأن أسبابه الحقيقية أو أهداف قادة الجيش من القيام به. فمنذ اقتسام السلطة مع المدنيين بزعامة سوتشي لم يفقد الجنرالات شيئاً يذكر من سلطتهم، كما أوضح توم أندروز مقرر حقوق الإنسان في ميانمار بالأمم المتحدة، إذ يتمتعون بالسيطرة على وزارات الدفاع والداخلية وغيرهما، كما أن مصالحهم الاقتصادية لم تتأثر، إضافة إلى تمتعهم بحق النقض في المسائل الدستورية.
وسياسياً أيضاً استفاد قادة الجيش من وجود حكومة مدنية برئاسة سوتشي التي نمت تصرفاتها على أنها على ما يبدو لا تقل عن قادة الجيش تعصباً لعرقية البامار البوذية التي تمثل الأغلبية في البلاد، وهكذا دافعت بشراسة عن فظائع الجيش بحق الأقليات وخاصة أقلية الروهينغا المسلمة وبررت ما يرقى إلى الإبادة الجماعية، بحسب التقارير الحقوقية الدولية، بأنه "حرب على الإرهاب".
وفي هذا السياق يأتي تقرير نشرته صحيفة The Times البريطانية تعليقاً على الانقلاب عنوانه "انقلاب بورما العسكري: نهاية ديمقراطية سطحية وخادعة"، رصد المؤشرات على أن الانقلاب لا يزيد على كونه سيطرة على السلطة على الورق فقط، حيث إن الجيش لم يتخلَّ عن تلك السلطة من الأساس. فقبل 10 سنوات عندما أطلق الجنرالات سراح سوتشي من الإقامة الجبرية في منزلها، كان ذلك بمثابة انتصار كبير للديمقراطية وتراجع عن الحكم العسكري الممتد لأكثر من نصف قرن.
وبالتالي بدت الأمور، من حيث الشكل، كما لو أن الجنرالات قد تركوا أمور السياسة والحكم للسياسيين المدنيين، لكن انقلاب اليوم الاثنين فضح سطحية وزيف تلك الديمقراطية الشكلية. وقد تجاهل كثير من السياسيين الغربيين المؤشرات الواضحة منذ اللحظة الأولى على زيف تلك الديمقراطية، بداية من اتفاق تقاسم السلطة الذي حافظ للجنرالات على امتيازات اقتصادية مطلقة وصلاحيات سياسية تفوق قدرة أي شريك لهم على اتخاذ قرارات ذات معنى دون موافقتهم.
هذه المؤشرات جميعاً تضفي مزيداً من الغموض على الانقلاب ودوافعه بالتأكيد، وعلى الأرجح لن تتضح حقيقة ما دار ويدور في كواليسه قريباً، ويظل التساؤل بشأن مدى قدرة قادة الجيش على الصمود أمام ردود الفعل الدولية الرافضة للانقلاب وما إذا كانوا سيتمكنون من التوصل لاتفاق جديد مع سوتشي كما فعلوا في المرة الأولى.
المصدر: عربي بوست
أخبار ذات صلة
الإثنين, 01 فبراير, 2021
من هي رئيسة حكومة بورما "سو تشي" التي نفذ الجيش ضدها انقلابا عسكرياً؟