وصفت أغلب وسائل الإعلام الأمريكية جولة الرئيس دونالد ترامب الخارجية، في مايو/أيار الماضي، بـ"السعي للفرار من واشنطن"، بعد أن بدأ خناقها يضيق أكثر فأكثر على ساكن البيت الأبيض الجديد.
فمن تهم عدم امتلاك المشروع أو الحلول للشؤون الأمريكية، الداخلية منها والخارجية، إلى عجزه عن ملء مناصب إدارته وافتقاره إلى الطاقم المختص، وصولًا إلى إسقاط فضائح الارتباط بموسكو، من أفراد فريقه، واحدًا تلوالآخر.
أما أزمته الأخيرة، وهي الأخطر في تاريخ رؤساء واشنطن كما يصفها الإعلام الأمريكي، فقد أوقعته في فخ اقتراف خطيئة يدور الحديث اليوم عن احتمالات أن تطيح به قبل أن يكمل عامه الأول رئيسًا.
فقد أقال ترامب مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي "إف بي آي"، جيمس كومي، الذي كان ينشط في التحقيق بملف العلاقات الروسية المشبوهة، وذلك قبيل بدء جولته الرئاسية الأولى، أو بدء "الهروب" حسب الإعلام، الذي يفضل ترامب بالمقابل وصفه بـ"المزيف".
كل هذا حدث قبل أزمة الخليج، التي عصفت، ابتداءً من 5 الجاري، بالعلاقات بين قطر وجيرانها؛ السعودية والإمارات والبحرين، الذين اتهموا الدوحة بـ"دعم الإرهاب"، بعد أيام من مشاركة الأخيرة، إلى جانبهم، في مؤتمر "إسلامي-أمريكي" لمكافحته، وبمشاركة ترامب، في أولى محطاته الخارجية.
وبالرغم مما بثته الكاميرات من ألفة وتعاضدٍ كبيرين بين قادة تلك الدول في المؤتمر وعلى هوامشه الكثيرة، إلا أنه تبدد بسرعة كبيرة، ما فرض العديد من إشارات الاستفهام والتعجب.
بغض النظر عن أسباب الخلاف الخليجي، فقد انعكس على خلافات واشنطن، أو ربما كان ما يحدث في الخليج من تداعياتها، أو أن أقطاب واشنطن وأقطاب الخليج يتبادلون التأثير في إطار صراعاتهم المختلفة.
فبعد يوم من إعلان السعودية والإمارات والبحرين قطع علاقاتها بقطر، كشف ترامب عن موقفه، عبر حسابه على "تويتر"، الداعم للدول الثلاث ضد قطر، بالرغم من تصريح سابق للمتحدثة باسم البيت الأبيض، سارة ساندرز، قالت فيه إن الرجل "ملتزم بتخفيف التصعيد".
فقد قال ترامب في عدة تغريدات: "من الجيد أن نرى زيارة السعودية مع الملك (سلمان) و50 دولة أخرى تؤتي أكلها، حيث قالوا إنهم سيتخذون موقفا شديدا من تمويل التطرف، وكل المؤشرات تتجه نحو قطر".
وفيما بدا أنه تاييد لقطع خصوم الدوحة علاقاتهم الدبلوماسية معها، قال: "ربما يكون ذلك بداية النهاية لفظائع الإرهاب".
بالمقابل، وفي الوقت الذي كانت أوساط إماراتية تتحدث فيه عن "ضرورة" قطع واشنطن علاقاتها مع الدوحة، ونقل قاعدتها العسكرية العملاقة، "العديد"، من أراضيها، أكدت أوساط عسكرية أمريكية رفضها ذلك، بل وامتنانها لدعم قطر للوجود الأمريكي، و"التزامها الدائم بأمن المنطقة"، بحسب تصريح لوزيرة القوات الجوية، هيذر ويلسون، الثلاثاء.
ويبدو أن تصريحات ترامب عبر تويتر أشعلت العديد من ردود الفعل المعارضة لذلك الموقف، وبالتالي المساندة لقطر، وذكّرت أوساط سياسية أمريكية بنتائج تحقيقات سابقة أثبتت تورط الرياض بدعم "إرهابيين"، وإن بشكل غير مباشر، ما ترتب عليه إقرار الكونغرس، سبتمبر الماضي، قانون "جاستا" الشهير، الذي يتيح لضحايا هجمات 11 سبتمبر مقاضاة النظام السعودي.
كما أبدت العديد من العواصم الأوروبية رفضها لما يحدث في الخليج، خصوصًا برلين، التي عبر وزير خارجيتها، سيغمار غابريال، تضامن بلاده مع الدوحة، محملًا الرئيس الأمريكي مسؤولية التوتر، في إشارة واضحة إلى "تغريداته".
لم يلبث ترامب أن أبدى انحناءً للعاصفة، خصوصًا أنه صاحب شعار "أمريكا أولًا"، الذي مكنه من الفوز بالرئاسة، فقد سارع، الأربعاء، إلى الاتصال بأمير قطر، الشيخ تميم بن حمد، معبرًا فيه عن حرصه على رأب الصدع الخليجي، واستعداده للمشاركة في جهود الوساطة.
يطرح هذا المشهد عدة فرضيات حول الأسباب التي دفعت موقف ترامب المعادي لقطر، ثم تراجعه، أولها أن موقفه الأول لم يكن سوى رغبة منه في نشوب صراعات تشد انتباه الرأي العام عن التحقيقات الجارية في علاقاته وفريقه بموسكو، وفشله المستمر في تحقيق أي من وعوده، وهو أيضا ما سيتيح له لعب دور في الوساطة لاحقا، تحسب نتائجها لصالحه محليا ودوليا.
أما الفرضية الثانية، فتتمثل في تأثره بضغوط أوساط في واشنطن، ومجموعات ضغط محسوبة على الدول الخليجية، وخصوصا الإمارات، التي يقال إنها تقود الحملة ضد الدوحة.
فقبل يومين من قطع العلاقات مع قطر، سرب قراصنة رسائل بريد السفير الإماراتي في واشنطن، يوسف العتيبة، كشفت عن مراسلات له مع مسؤولي "مؤسسة الدفاع عن الديموقراطيات" (FDD)، وهي خلية تفكير وضغط تعرف بتوجهها الجمهوري الصهيوني.
إضافة إلى مراسلات العتيبة مع "روبرت غيتس"، وزير الدفاع الأسبق (في عهد بوش الابن)، الذي كان على موعد للحديث في ندوة لتلك المؤسسة عن "علاقات" قطر بـ"الإخوان المسلمين"، والذي يعد من أنصار ترامب ومواقفه.
وعقب تفجر الأزمة، ذكر تقرير لصحيفة "هآرتس" الإسرائيلية، الإثنين، أن للبلدين، الإمارات وقطر، تاريخ طويل من الاستثمار في جماعات الضغط الأمريكية.
وأشارت الصحيفة إلى عقد الإمارات شراكات، شملت دفع مبالغ كبيرة (لم تحددها)، مع عدد من مجموعات التفكير والضغط قوية التأثير، مثل "أتلانتيك كاونسل" (Atlantic Council)، ومركز الدراسات الدولية والاستراتيجية (CSIS)، علاوة على "مؤسسة الدفاع عن الديموقراطيات"، الذي أنكر مسؤولوه للصحيفة تلقيهم أموالًا من حكومات أجنبية.
بالمقابل، فإن قطر أعلنت في مايو/أيار الماضي عن شراكة مع "معهد بروكينغز" (Brookings Institution)، وهي مجموعة بحثية كبيرة وذات نفوذ واسع في واشنطن، كجزء من مساعيها لـ"إيجاد مشروع بحثي عن العلاقة بين الولايات المتحدة والعالم الإسلامي"، بحسب الصحيفة.
ومن قوى الضغط التي يعتقد أنها ساهمت في التأثير على قرار الرئيس ترامب، شركات السلاح والطاقة.
ففي ظل التصعيد بين دول السعودية والإمارات والبحرين من جهة، وقطر من جهة أخرى، والتراشق الإعلامي، وتبادل الاتهامات، فإنه من المرجح أن تسارع الأطراف إلى زيادة الطلب على السلاح.
أما بشأن الطاقة، فقد نشر موقع شبكة "سي إن بي سي" الأمريكية، نهاية مايو/أيار الماضي، أي قبل الأزمة بأيام، تقريرًا عن مساعي ترامب تضييق الخناق على صادرات قطر من الغاز المسال، وهو المورد الأساسي لاقتصادها، وذلك من خلال الضغط على الصين، أحد أكبر شركاء قطر التجاريين، لاستيراده من الشركات الأمريكية، في سياق حل الخلاف الحاد بين واشنطن وبكين حول عجز الميزان التجاري بينهما لصالح الأخيرة.
إذن فإن الانقسام الحاد بين جماعات الضغط والمؤسسات في واشنطن يزيد انقسامًا على وقع أزمة الخليج، بل إنه ساهم في تأجيجها، ولكن الأهم أن ما حدث ويحدث أظهر المزيد من العجز والتردد والتخبط لدى ترامب، واستسلامه لصراع الأجنحة واللوبيات المختلفة في العاصمة الأمريكية.