تُمثّل شخصية الرئيس القاضي عبد الرحمن بن يحيى الإرياني (1910 – 1998) واحدة من الشخصيات اليمنية الأكثر التزامًا في مواقفها بما يتفقُ مع قناعاتها الوطنية، وهو ما نلاحظه بدءًا من مشاركاته الأولى في العمل مع الحركة الوطنية منذ ثلاثينيات القرن الماضي وحتى قيام ثورة 26 سبتمبر/ أيلول 1962م التي قام بها تنظيم الضباط الأحرار من داخل الجيش، وكان موقف الإرياني مؤيدًا لها، وإنْ كان له رأي مختلف في تحديد موعد تفجيرها.
وفي الذكرى الرابعة والعشرين لوفاته، نعيد التذكير بسيرته الذاتية، حيث كان، سياسي وشاعر وأحد قضاة اليمن، شارك في مراحل النضال الوطني ضد "حكم الإمامة" المَلكي، وهو ثاني رئيس وأول مدني حكَم الشطر الشمالي من البلاد بعد الإطاحة بالحكم الإمامي 1962، وأول رئيس عربي يقدم استقالته إلى مجلس شورى منتخب.
النشأة والتكوين والنضال السياسي
ولد عبد الرحمن بن يحيى بن محمد بن عبد الله الإرياني يوم 10 يونيو/حزيران 1910 في بلدة حصن إريان في محافظة إب (وسط اليمن) ونشأ في أسرة علمية، فقد كان أبوه من كبار علماء عصره.
بدأ دراسة القرآن على يد العلامة عبد الواسع بن محمد الإرياني رحمه الله، وكذلك مبادئ النحو والفقه والحديث على يد والده وأخيه الأكبر (علي). بعثه والده إلى مدينة جبلة، لدراسة التجويد والأجرومية في النحو.
التحق بالمدرسة العلمية بصنعاء خلال 1925-1929، ودرس فيها النحو والبيان والأصول والحديث والفقه، ومن ثم عاد إلى بلدته إريان ولازمَ والده، الذي كان من أبرز علماء عصره، وعند تعيين والده عضوًا في محكمة الاستئناف بصنعاء انتقل معه.
استأنف دراسته على أبيه الذي لازمه ملازمة تامة، وحين انتقل والده إلى العاصمة صنعاء -على إثر تعيينه في محكمة الاستئناف- صحبه مواصلا دراسته حتى أنهى مرحلة التحصيل 1936.
في عام 1936، عقب الانتهاء من التحصيل، تم تعيينه حاكمًا شرعيًّا لقضاء النادرة بمحافظة إب (وسط اليمن) فغادر صنعاء وشغل القضاء هناك لسبع سنوات. ثم عُيِّن حاكمًا لقضاء العدين في نفس العام الذي توفّي فيه والده، ليُعين لاحقًا حاكمًا لقضاء يريم، لكن أمير لواء إب الأمير الحسن أبقاه لجواره لحل بعض الخلافات.
صار وزيرا للعدل بعد قيام الثورة الجمهورية التي أطاحت بالنظام الملكي 1962 بدعم من مصر، وعضوا في قيادة الثورة وفي المجلس الجمهوري، ثم رئيسا للمجلس الجمهوري 1967.
كان الإرياني سياسيا مصلحا وشاعرا مُجيدا، التحق بالعمل الثوري ضد الحكم الإمامي الملكي وهو يافع، وشارك في مراحل النضال الوطني لإسقاطه فسُجن لذلك مرات، كانت إحداها في سجن حجة حيث قضى ثلاث سنوات.
كما شارك عام 1944 في تأسيس أول جمعية سياسية في ذلك العهد باليمن باسم (جمعية الإصلاح)، والتي كانت على تواصُل مع الحركة الوطنية في عدن، وكان لها أهداف سياسية وإصلاحية للنظام الإمامي.
إلا أنّ سيف الإسلام الأمير الحسن (نجل الإمام يحيى) كشف نشاط الجمعية، وتم القبض على أعضائها ممن كانوا موجودين، واقْتيدوا إلى السجن، وتم اعتقال القاضي عبد الرحمن في نوفمبر/ تشرين الثاني عام 1944، إلى أنْ أُطلق سراحه في 14 مارس/ آذار عام 1945.
عينه الإمام يحيى عضوًا في هيئة تدقيق الأحكام بتعز، وبقي هناك حتى عام 1947، في تلك الفترة بقي على اطّلاع دائم على الصحف والكتب التي كانت تصلُ من مدينة عدن، ومن ثم تقدَّم بطلبٍ إلى الإمام يحيى حميد الدين طالبًا الموافقة على شراء جهاز راديو.. في صورة تعكسُ ما كان عليه وضع البلاد قبل الثورة.
خلال الفترة من 1956 إلى 1958 عمل الإرياني مع المعارضة اليمنية على وضع ما أسموه برنامج العمل الوطني، والذي نتج عن عقد عدة جلسات لدراسة أحوال البلاد وكيفية الخروج منها.
الارياني والثورة السلطة
في حكومة ما بعد الثورة تم تعيين القاضي عبد الرحمن الإرياني وزيرًا للعدل (1962- 1964)، وعضوًا في التشكيل الثاني لمجلس قيادة الثورة، وخلال تلك الفترة أعلن القاضي الإرياني رفضه للإعدامات التي كانت تُنفذ لرجالات العهد الإمامي، وهو ما عبّرت عنه رسالة بعث بها من تعز إلى الرئيس عبد الله السلال، كما كان له موقف لا يرغب فيه بالتدخل المصري في اليمن بعد الثورة، وكذلك التدخل السعودي، بل كان رافضًا للصراع الإقليمي في اليمن.
ترأّس القاضي الإرياني وفود اليمن للأقطار العربية لشكرها على الاعتراف بالثورة، وكان خلال تلك الفترة رافضًا لِما كان يمارسه عبد الرحمن البيضاني من تجميع للنفوذ والمناصب بعد وصوله إلى اليمن بعد الثورة المدعومة من مصر.
تم تشكيل مجلس رئاسة في 13 أبريل/ نيسان عام 1963م، وأُعيد تشكيل مجلس الوزراء باسم المجلس التنفيذي. وأصبح القاضي الإرياني عضوًا في مجلس الرئاسة، ثم تولى رئاسة المجلس التنفيذي وعُيّن نائبًا لرئيس الجمهورية في 5 أكتوبر/ تشرين الأول 1963م.
تولى مناصب قيادية عديدة في العهد الثوري، ثم أصبح في نوفمبر/تشرين الثاني 1967 ثاني رئيس للجمهورية العربية اليمنية (الشطر الشمالي)، بتوافق من الأطراف السياسية والعسكرية بعد تنحية الرئيس المشير عبد الله السلال.
خلال فترة حكمه أسهم الرئيس القاضي الإرياني في تعزيز علاقات دبلوماسية مع الدول العربية وعدد من الدول الأجنبية، وتوقيع عدد من اتفاقيات التعاون مع عديد من البلدان، ملتزمًا سياسة حيادية في علاقات اليمن الخارجية.
انتخِب في عهده أول مجلس شورى وصِيغ أول دستور يمني حديث، كما بدأ فيه التفاوض بشأن تحقيق الوحدة اليمنية وأسُسها، من خلال اتفاقيتيْ "القاهرة" و"طرابلس" بين شطريْ اليمن آنذاك، الجنوبي والشمالي.
كما شهدت فترة حكم الإرياني إصدار قرارات بإنشاء عددٍ من مؤسسات الدولة مثل البنك المركزي ومصلحة الضرائب ومصلحة الآثار ومصلحة السياحة والمؤسسة العامة للمياه والمجاري والمؤسسة الاقتصادية العسكرية وأول جامعة ممثلة بجامعة صنعا والمجلس الأعلى للتخطيط
اسهم في الدفع بمشاورات إعادة تحقيق الوحدة اليمنية بين الشطرين على الرغم من اختلاف نظاميهما وتوجهاتهما، وتم خلال عهده تشكيل لجان لتوحيد الأنظمة، وعقد عدد من اللقاءات، بما فيها لقاءت قمة بين قيادات الشطرين
ظل الإرياني رئيسا للبلاد حتى استقال بتاريخ 13 يونيو/حزيران 1974 -عقب الانقلاب الأبيض الذي تزعمه إبراهيم محمد الحمدي- فرحل إلى سوريا، وظل هناك حتى سمح له الرئيس الأسبق علي عبد الله صالح بالعودة إلى اليمن.
وأرخ الإرياني للثورة اليمنية في مراحلها المختلفة ومنذ بداياتها الأولى، ويُعد كتابه "مذكرات الإرياني" وثيقة مهمة من وثائق الثورة اليمنية في الفترة ما بين عشرينيات القرن الماضي وسبعينياته.
ومن مؤلفاته العلمية والأدبية "الشريعة المتوكلية والقضاء في اليمن" نشره باسم صديقه أحمد بن عبد الرحمن المعلمي، وديوان شعر بعنوان "ملحمة من سجون حجة".
وفي مجال التحقيق حقق ونشر عددا من الكتب، منها: "هداية المستبصرين بشرح عدة الحصن الحصين" لوالده، و"السيف الباتر لأعناق عباد المقابر لأخيه عقيل الإرياني، و"تطهير الاعتقاد من أدران الإلحاد" للعلامة محمد بن إسماعيل الأمير.
وتوفي عبد الرحمن الإرياني يوم 15 ذي القعدة 1418 هـ الموافق 14 مارس/آذار 1998 في مدينة دمشق، ونُقل جثمانه إلى صنعاء.
المصادر:
- عبد الرحمن بن يحيى الإرياني – المذكرات (الجزاءن الأول والثاني) – طبعة مجهولة.
- موسوعة أعلام اليمن ومؤلفيه، د. عبد الولي الشميري، مؤسسة الإبداع للثقافة والآداب والفنون، ط1، 1917م.