لطالما سمعت عن جمعية الهلال الأحمر الكويتي والجهود الكبيرة التي تبذلها في مساعدة الآخرين، ولكن من يرى ويشاهد ليس كمن يسمع..
رافقت وفدا من الجمعية في رحلتهم إلى اليمن لتوزيع مساعدات طبية، وسط ظروف صعبة وحرجة للغاية، فكان الوضع والرحلة مختلفَين تماما عمّا كنت أتصوّره أو أتخيّله طوال سنوات طويلة مضت.
ترأس الوفد مدير عام الجمعية عبدالرحمن العون وبرفقة الخبير بشؤون اليمن وأهله ومناطقه وتاريخه د.عمر الشريكة، ومدير إدارة التصوير في «الهلال» عدنان النوة، بالتعاون مع مركز «استجابة» للعمل الانساني برئاسة شوقي باعظيم وعضوية صالح باقلاقل والصحافي عمر باحافي.
وصلنا الى عدن في الثانية ظهرا عن طريق الأردن.. المدينة حزينة جدا، كل شيء فيها يشكو من الحرب.. الناس والمباني المهدمة والهواء الذي كان في يوم من الأيام عليلا.
في الساعة السادسة فجر اليوم التالي لوصولنا، كانت سيارات الدفع الرباعي تنتظرنا في موقف الفندق الجميل الذي نزلنا فيه، وفوجئت بأن فريق العمل والمرافقين ينتظرونني في السيارات.
لم أتخيّل أنهم بهذا النشاط، مع بزوغ الفجر سننطلق في أولى محطات المساعدات إلى مدينة أبين التي تبعد ثلاث ساعات تقريبا عن عدن.. الحرب دمرت الطرق والممرات والمباني والاستراحات، نمرّ على أطلال حضارة كانت هنا، والطريق الآن بعد توقف الحرب فيها شبه معبّد.
بين فترة وأخرى نتوقّف عند نقاط التفتيش، مررنا بمدينة زنجبار على البحر وأكملنا السير إلى المدينة التي بعدها وهي الشقرا.. ثم وصلنا بعد ثلاث ساعات إلى محطتنا الأولى، وهي مخيم طبي في منطقة مزدحمة سكانها بحاجة شديدة إلى العلاج والدواء، استفاد منه أكثر من 2000 مريض.
لم يكن الوصول إلى هذا المكان سهلا كما توقعته في البداية، ولكن حين شاهدت أعين الناس وهم ينتظرون الأطباء ليعالجوهم، أيقنت أن هذا العمل يستحق عناء الرحلة الطويلة البعيدة وسط صحراء الجنوب اليمني.
سوء التغذية
يعاني أهل أبين والمناطق المحيطة بها من مشاكل صحية عدة، أهمها سوء التغذية التي يسبّب نموا سيئا للطفل وإعاقة له، لذلك كان مشهد قدوم الأهالي من المناطق القريبة من أبين يدمي القلب.. فهناك أسر تسير أكثر من 100 كيلو متر على الأقدام منذ ما قبل الفجر، وآخرون في الشاحنات المزدحمة جدا، كل هذا السعي من أجل أن يصلوا إلى المخيم الطبي الذي أعدته جمعية الهلال الأحمر الكويتي لعلاجهم، فإذا رحل المخيم قبل أن يصلوا إليه.. فلن يحصلوا على العلاج!
بُعد المسافة من أكثر المشاكل التي يعاني منها أهل اليمن.. لذلك كانت العيادات المتنقلة أفضل هدية للأهالي هنا، لأنها توفر، ولو قدرا بسيطا من العلاج للناس، سواء ضحايا الحرب التي دارت في هذا المكان منذ سنتين، أو الذين لم يحصلوا على قدر كافٍ من العلاج.
أكثر من ست عيادات متنقلة تخدم أكثر من 10 آلاف مريض في المنطقة موزعة على المدن الكبيرة مثل زنجبار وأبين والصغيرة، مثل أشقر والقرى التي لا تظهر بعضها حتى على الخريطة، بعد انتهاء الرحلة وضعت جسدي المنهك على السرير..
طافت بذاكرتي كل الوجوه التي كانت تنتظر في الطابور الطويل لكي تحصل على العلاج، لم أنس نظرات الطفلة أمينة وهي تنتظر دورها في الدخول على الطبيب، سألتها «كيف حالك؟»، قالت بابتسامة جميلة: «شكرا لأنكم قدمتم إلينا، أنا مستانسة لأنني سأدخل على الطبيب».. يا له من مشهد لا ينسى! كان كافيا ليؤرّقني طوال الليل.
اليوم الثاني
على الرغم من تعب اليوم الأول، فإننا استيقظنا قبل فجر اليوم التالي.. الساعة الثالثة قبل الفجر، رحلتنا المقبلة طويلة وتحتاج وقتا وجهدا، سنتوجه إلى «تعز» المدينة المحاصرة، كما يسميها أهل عدن، فعلى حدودها الشمالية والغربية (الجبال) يعسكر الحوثيون.
في السابق كانت الرحلة من عدن إلى تعز تستغرق ساعة ونصف الساعة بالسيارة.. أما اليوم فتستغرق أربعاً أو خمس ساعات، لأن الطريق الرئيس مدمّر بسبب الحرب وغير آمن، الطريق الوحيد الذي يوصل بين المدينتين وعرٌ جدا ويمرّ بين الجبال والوديان وغير ممهد وتصعب القيادة فيه ولا يعرفه إلا من يعيش في تلك الأماكن، ولكن للضرورة أحكام.. الناس في تعز بحاجة إلى من يمد لهم يد العون، فهم يعانون من قلة الدواء وعدم توافر الأجهزة الطبية، خاصة الأطفال.
5 ساعات سيرا
بعد خمس ساعات من السير في طريق صعب جدا، وسط جبال صخرية وأرض صلبة فوق صخور صماء صلبة، وجبال راسيات طويلة كأنها عماليق تحيط بنا، «سنصل إلى تلك القمة العالية التي هناك.. هل تشاهدها؟ هناك مدينة تعز».. هذا ما ذكره لي مرافقي في السيارة صالح باقلاقل ويبدو أنه رآني مشدوها بعظمة الجبال وخلقها الرائع.
كانت جملته مفاجأة لي.. لم أتوقع أننا سنسير إلى تلك القمة العالية جدا، الطريق يحتاج إلى جهد كبير ووقت أطول، لكن هذا هو عمل الخير ومساعدة الناس، يحتاج إلى صبر وتحمل للمشاق والصعاب، إذا مررنا بالقرب من السيارة الأخرى وجدتهم يبتسمون بالرغم من مشقة الطريق ووعورته، كانت ابتسامتهم تعطينا حافزا أكبر لتحمل هذا الطريق الذي أسير فيه لأول مرة في حياتي، توقفنا في منتصف الطريق لكي نرتاح قليلا.
جاء إلينا أطفال من بين الصخور المحيطة بنا، كأنهم خرجوا من وسط القبور(!) سألتهم «ماذا تحتاجون؟ فقالوا: نحتاج إلى الأمان»! على طول الطريق رجال نصف عراة يمهدون الطريق للسيارات مقابل بعض الأدوية التي يحتاجون إليها، كما كانوا يعطون المارة شيئا من التمر.
مهمة صعبة
أمام الهلال الأحمر في تعز مهمة صعبة، فنحن الآن في قلب الحدث أو لنقل في مرمى النار.. الحوثيون مرابطون على الجبال المحيطة بها، والقوات الشرعية تسيطر على المدينة من الداخل، وليس فيها كهرباء منذ ثلاث سنوات، والقرى التي جئنا لمساعدتها تقع في أعلى الجبال، والمستشفيات العامة فيها معروف مكانها ويجري تبادل إطلاق نار بين الفئات المتقاتلة هناك بلا سابق موعد..
وسط هذه الظروف سنقوم بمهماتنا التي جئنا من أجلها، رجل خير كويتي -جزاه الله خيراً- تبرع بتأثيث كل المستشفيات في تعز (عددها ثلاثة) والهلال الأحمر جاءت للإشراف على تأثيث المستشفيات.
في المستشفى الميداني (خاص بالأعصاب) القصص التي سمعناها وشاهدناها هناك جعلتنا ندعو كثيرا لرجل الخير الذي أثث هذا المستشفى، الدمار في تعز في كل مكان، وما يعصر القلب ألما مشهد توزيع المياه، إذ تأتي سيارة الماء (التنكر) وتقف على طرف الطريق، ويتراكض إليها الناس من كل صوب وهم يحملون الجراكل ليحصلوا على الماء ليومهم، فإذا لم يستطع أحدهم الحصول على الماء ظل يومهم كاملا بلا ماء منتظرا الفرج في اليوم التالي.
وجهتنا التالية كانت المستشفى العسكري الذي يقع في طرف المدينة ويمر عبر طريق يسده تنكر كبير تعرض للقصف، بمجرد ما مررنا من التنكر واجهتنا طلقات نار لا نعرف مصدرها، فاضطررنا للتوقف في أحد الممرات الجانبية والاستلقاء في السيارة لكي لا تصيبنا الطلقات الطائشة، دقائق مرت علينا كانت كأنها ساعات، وعندما توقف إطلاق النار غيرنا وجهتنا لكي نتفادى أي مشاكل ممكن أن تقع لنا.
5 آلاف حالة
مشوارنا الثالث كان مركز الأمل لعلاج السرطان، تخيل أننا أمام مبنى يعالج 5000 حالة، العدد في حد ذاته مؤلم للغاية فكيف بمن يشاهدهم أمامه؟!.
وضع أكبر من الوصف
قادتنا الرحلة إلى منطقة الشارق، وهي تقع أعلى الجبل في الجهة الجنوبية، وعلى سفح الجبل قرية صغيرة أقام الهلال الأحمر بالتعاون مع مركز «استجابة» للعمل الانساني اليمني مخيما طبيا.
وفي اليوم التالي استيقظنا مبكرين لنكسب الوقت، بعد ساعتين من صعود الجبل وصلنا القرية، كان طريقا شاقا ومتعبا لا يسع سوى سيارة واحدة، ويسير بمحاذاة سفح الجبل، لم أستطع أن أغمض عيني لحظة بالرغم من التعب الذي أشعر به، ولكن مساندة الجميع حولي وتشجيع بعضهم لبعض كان يدفعنا لتحمل كل المشاق.
في القرية كان الوضع أكبر من الوصف أو الكتابة عنه، عدد المراجعين كبير جدا، يريدون الحصول على العلاج خلال الأيام الثلاثة هي فترة بقاء المخيم بينهم.
ومن أمام المخيم وقفت أنظر إلى جمال المنطقة وروعتها الطبيعية، سبحان من خلق هذا الجمال الآسر.. ولكن عندما تشاهد المرأة العجوز أو الأطفال وحتى الكبار يسيرون على أقدامهم ساعات طويلة من أجل اللحاق بالمخيم والحصول على العلاج يذهب كل إحساس بجمال الطبيعة من القلب، ولا يبقى فيه سوى لوعة ما تشاهده أمامك من افتقاد الناس لأبسط حقوقهم وهو العلاج الطبي والدواء، التي تقوم الجمعيات المختلفة بمحاولة توفيره مشكورة.
هنا أدركت سر ابتسامة فريق العمل طوال الطريق الشاق بالرغم من خطورته.. إنها الطمأنينة التي يشعر بها الإنسان عندما يساعد أخاه الإنسان..
كانت رحلة اليمن رحلة في عالم الإنسانية برفقة الهلال الأحمر الكويتي.
مطعم في الشارع
بعد الرحلة عدنا إلى فندقنا المتواضع البسيط وسط المدينة تعز، وجلسنا فترة من الوقت في المطعم الملاصق له وكانت جلستنا في الشارع.
هكذا هي جلسة هذا المطعم، قدموا لنا البيض المخلوط بالطماطم (الشكشوكة) وخبزا يشبه الخبز الهندي المشهور (الجباتي) ممزوجا بجبنة ماعز يمنية.
درجة الحرارة لا تتجاوز ?? درجات، هذا الجمال والجلسة الممتعة لم تطل.. فلابد من الخلود إلى النوم مبكرا.
ساحة حرب
الوجهة الثالثة للوفد في تعز كانت مركز «رعاية» للعلاج الطبيعي لجرحى الحرب، وعندما تشاهد هذا المبنى تشعر وكأنك في ساحة حرب وليس مستشفى من كثرة عدد الجرحى.
الوضع كان مؤلما ومحزنا في وقت واحد، وتكفل رجل الخير الكويتي بتأثيث المستشفى وأشرفت الهلال الأحمر عليه. وعدد من يتعالج في المركز 1270 حالة، كما قال مدير المركز د. يحيى الصالحي.